القائمة الرئيسية

الصفحات

الورد اليومي - صفحة رقم ٦١ من القران الكريم - وتفسيرها للشيخ الشعراوي - مدونه خواطر لتغير حياتك


{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
عندما ننظر إلى هذه الآية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل إليهم في الإيمان به، ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية، إن قول الحق: (قل) هو خطاب لمفرد هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمقول: {آمَنَّا} دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في (قل)، وكأن الرسول موجود في {آمَنَّا}، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها.
وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة، ولذلك قلنا من قبل: إن للرسول صلى الله عليه وسلم إيمانين، لقد آمن بالله، وأمن للمؤمنين، وهو صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها، ولذلك يقول الحق: {قُلْ آمَنَّا}، كان القياس أن يقول: (قل آمنت)، أو أن يقول: {قولوا آمَنَّا}. لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته، وقد قال الحق هنا: {قُلْ آمَنَّا} ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون ذا عصبية إيمانية قوية، فلو قال: (قل آمنت) لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به قومه، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 1-2].
وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال، فمرة يقول الحق: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
ومرة أخرى يقول الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وهكذا نجد أن (الإنزال) يأتي مرة متعديا ب (إلى)، ويأتي مرة مرة أخرى متعديا (بعلى). وقال بعض من العلماء: إن الكلام حينما يكون موجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحق يقول: (أنزل عليك)، وكأن هؤلاء العلماء- دون قصد منهم- يفصلون بين بلاغ الله للرسول عن البلاغ إلى أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على الرسول هو هداية الأمة.
ونحن نقول: إن علينا ألا نأخذ الأمر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيَّا، وهو أن (إلى) و(على) إنما تفيدان أن المنهج نزل للأمة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب (إلى) والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق: {وَإِذَا سَمِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83].
ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب (على) والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
ومرة ثالثة يأتي الحق بالإنزال في حديث إلى المؤمنين: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140].
إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو، والغاية من النزول هو مصلحة الأمة، فالإتيان ب (على) يْفيد العلو، ولمصلحة الأمة، (العلية) هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل لمصلحتهم. إذن فالنزول يقتضي (علِّية)، وهو من حيث العلو يأتي ب (على)، ومن حيث الغاية يأتي ب (إلى)، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم. ولذلك قلنا: إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان، فالقرآن قد نزل لمصلحتك، ومصلحة المؤمنين جميعا.
وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فهذا القول يوضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بمنهج يضم صحيح العقائد والقصص والأخبار، وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالات من يوم أن خلق الله الأرض وأرسل الرسل. وقد أخذ الله العهد على الأمم والأنبياء من قبل، بأنه إذا جاء رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به، وكذلك أخذ الله على رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بالرسل السابقين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأت ليهدم أديانا، ولكن ليكمل أديانا، وهكذا نرى النص القرآني الجليل: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3].
كأن الأديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد، والقصص، والأخبار موجودة في الإسلام، وفوق كل ذلك جاء الإسلام بشرائع تناسب كل زمان ومكان، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (إنما مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة).
إذن فزمام كل الأمر انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله العهد على غيره أن يصدقوه عندما يجيء، وهو صلى الله عليه وسلم آمن وصدق بمن سبق من الرسل، ولم يجيء من بعده شيء يطلب من رسول الله ولا من أمته أن يصدقوه، وقال الحق تذييلا لهذه الآية الكريمة: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
أي أنه لا يوجد لأتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية، بل المسألة كلها تبدأ من الله، وتنتهي إلى الله. وتلك هي القضية النهائية في موكب الرسالات. وما دام الإسلام هو ذلك الانقياد الذي يختاره الإنسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في الإسلام لله، ويكّون انسجاما مع الكون الآخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا لله، وبذلك يصبح الكون بما فيه الإنسان المؤمن المسلم لله كله مسخَّراً لله سبحانه وتعالى. وما دام الكون بالإنسان قد صار مسخرا لله فلا تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لأن الذي يهيمن هذه الهيمْنة هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره، وإذا كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة، ذلك التصادم الذي يؤدي إلى كوارث ومصائب.
مثال ذلك، للنظر إلى السكك الحديدية، ألا يوجد موظف اسمه (المحولجي)؟ ومعنى هذه الوظيفة هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى لا تدهم قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه. إن ذلك من فعل الإنسان فيما صنع من قطارات ومواصلات، لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها، فما بالنا بالحق- وله المثل الأعلى- وهو الذي خلق الإنسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى لا تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى.
ولننظر إلى الأشياء التي جاءت بقانون التسخير، والأشياء التي دخلت في ظل الاختيار. أسمعنا أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا، فالجمل يفادي نفسه وما يحمل من الجمل الآخر وما يحمله، لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة، ذلك أن السيارة لا تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار، وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في غفلته الكوارث.
إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في الأمور الاختيارية، أو غفلة إنسان عن مهمته، كغفلة (المحولجي) عن عمله في تنظيم مرور القطارات، لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى في الوجود هو أمر مستحيل، ولا يحدث أبدا، لأن الأمر الذي ما زال في يد المهيمن الأعلى، مهيمن الأرض والسماء، وهو الله الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}
ومعناه: أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ولا أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد سخرت الوجود كله من أجلكم.
وما دام الأمر في الإسلام هكذا، والوجود ينسجم مع نفسه، فلماذا تشذ أنت أيها الإنسان عن الوجود؟ ولماذا تشِّذُ عن ملكات نفسك؟
لماذا لا تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت الإنسان السعيد.
وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية، بحيث يقع الحدث في أمريكا مثلا فنراه على شاشة التلفزيون فورا، ويركب الإنسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح العالم؟ لا، لقد ازداد العالم عناء، وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لابتكار أشياء تعطي للعالم مزيدا من القلق والاضطراب وتتصادم وتتعارض. وبذلك صار الكون لا يفرغ أبدا من حرب باردة أو ساخنة.
كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر، فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد يأمرنا فنأتمر، وينهانا فننتهي، بل كل إنسان يتبع في عمله هواه، لذلك نرى القلق والاضطراب، ونرى الصرخات تملأ الدنيا من أهوال ومصائب، منها مثلا المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن واقع حياته، فلا يريد مواجهة حياته، إنما يحاول الهرب منها بالإدمان، ونقول لمثل هذا الإنسان: ليس هذا حلا للمشكلة؛ لأن الإنسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقلا على عقله ليواجه هذه المشكلة، وأنت بهذا الإدمان إنما تُضَيِّع عقلك، رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك لتحل مشكلتك، فالهرب من المشكلة لا يحلها، إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البلايا لو أخذتم شرائعكم من منهج الله لكان ذلك حماية لكم من مثل تلك الكوارث.
وهكذا نرى أن كل الابتكارات تُوجه دائما إلى الشر أولا، فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها إلى الخير، ويا ليته خير خالص لوجه الله، لا، إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لأن الذي لا يملك هذا اللون من الاختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه الاكتشافات والاختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلالا لغيرهم وإن تظاهروا بغير ذلك.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأننا لم نكن منطقيين- كما يجب- مع أنفسنا ولا مع واقع الأمور النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي لا حد لها لا يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب، بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح، ولكن لِمَ لم يحدث هذا؟ لأن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا، والأهواء ليست هي اليد الأمينة، إن اليد الأمينة هي شرع الله الذي لم يشرع إلا لمصلحة من خلق، وما دام الإسلام يرسم طريق الأمان مع الخالق والنفس والكون الذي نحياه، بما فيه من الأجناس الأخرى، إذن فالدين عند الله هو الإسلام، وهذه هي النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ويتبعها الحق سبحانه بقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ...}.

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه. فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا: إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل: إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر.
ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف، إن مثل هذا القول سفسطة، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب.
وعندما نقول لإنسان: (إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك) أليس في ذلك حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة، إذن فقول الحق سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع، وكأنه قد قال لله: أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة.
وفي هذا القول فسق عن شرع الله، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه. وليرد كل شيء إلى الله المربي، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف. فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}.
وقد يقول قائل في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو سبحانه لا أحد يكرهه على شيء، ونقول له: إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك، ويقول الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}. والخاسر: مأخوذة من (الخسر)، و(الخسر) هو ذهاب رأس المال وضياعه، والآخرة حياة ليس بعدها حياة، ومن الغباء أن يقول قائل: (سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة) لا، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَق...}.

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
إننا نرى هنا الأسلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد الإيمان، إنهم لو لم يعلنوا الإيمان من قبل لقلنا: إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب.
وقد يتساءل إنسان قائلا: مادام الله لم يهدهم، فما ذنبهم؟ نقول له: يجب أن تتذكر ما نكرره دائما، لتتضح القضية في الذهن لأنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين، الذين يقول الواحد منهم: إن الله لم يرد هدايتي، فماذا أفعل أنا؟ إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف ومثل هذا القول لا يصدر إلا من المسرف على نفسه، ولا يأتي هذا القول أبدا من طائع لله، إن الذي يقول: إن المعصية إنما أرادها الله مني، فما ذنبي؟ يجب أن يعرف أن الطاعة من الله، فلماذا لم يقل: إن الطاعة من الله فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة، وتقف عند المعصية وتقول: إن الله قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ كان يجب أن نقول أيضا: ما دام قد كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟.
إننا نقول لمن يبرر لنفسه الانحراف: إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية. وأنت تحتاج إلى أن تفهم الأمر على حقيقته، لقد قلت من قبل: إن الهداية تأتي بمعنيين؛ هَدَى أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه، وإشارة أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه. ولا يوجد أحد عند هذه الإشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له: أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك، أو أركب معك لأوصلك إلى غايتك.
إن هذه الإشارة هي هداية فقط، إي أنها دلالة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة والله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا، أي دلّهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية. وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد الله، وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب الله وآمن به، فكأن الحق يقول له: إنك آمنت بي وبمنهجي، لذلك ستكون لك جائزة أخرى، وهي أن أعينك وأخفف عليك الأمور، وهذه هي الهداية الثانية التي يعطيها الله جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه. وتعني: المعونة، إن الله يعطي عبده المؤمن حلاوة الطاعة، ويجعله مقبلا عليها بنشاط.
إذن فالهداية تكون مرة (دلالة) وتكون مرة ثانية (معونة) إنني أكرر هذا القول حتى يتضح الأمر في أذهاننا جميعا، ولنذكره دائما، ونقول: مَن يعين الإنسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به، أما من كفر بالله، فلا يعينه الله.
وسبق أن قلت مثلا- وما زلت أضربه-: إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق الموصل للغاية كالمسافر إلى الإسكندرية مثلا، وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله: أين الطريق إلى الإسكندرية؟
فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى الإسكندرية قائلا للسائل: هذا هو الطريق الصحيح إلى الإسكندرية.
إن الشرطي هنا قد دل هذا الإنسان، لكن عندما يقول السائل للشرطي: (الحمد لله أنني وجدتك هنا لأنك يسرت لي السبيل) فهذا القول يأسر قلب الشرطي، فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق، وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه، وإن زاد السائل في شكره للشرطي، فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر، ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى الطريق، شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات، وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن شكره.
لكن لنفترض أن رجلا آخر سأل الشرطي عن الطريق، فكذب الرجل الشرطي، وفي مثل هذا الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل، وقد ضربت هذا المثل للتقريب لا للتشبيه. إن الحق يدل أولا بهداية الدلالة، وقد هدى الله الناس جميعا، أي دلهم على المنهج، فمن ذهب إلى رحابه وآمن به، أعطاه الله هداية ثانية، وهي هداية المعونة والتيسير. {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
إن الحق يعطيهم حلاوة الهداية وهي التقوى، كأن الحق يقول للعبد المؤمن: ما دمت قد أقبلت عليَِّ بالإيمان فلك حلاوة الإيمان، أما الذي يكفر، والذي يظلم نفسه بالشرك، فالحق يمنع عنه هداية المعونة؛ لأنه قد رأى هداية الدلالة ولم يؤمن بها. إذن فالاستفهام في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} هو تساؤل يراد به الإنكار والاستبعاد لا عن الهداية الأولى وهي هداية الدلالة، ولكنه عن هداية المعونة، أي: كيف أعين من كفر بي؟
والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في كتبهم حتى إن عبد الله بن سلام وهو منهم، يقول: لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157].
والتعبير القرآني الدقيق لم يقل: يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما يقول الحق: {الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157].
كأن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عليه الصلاة والسلام من دقة الوصف، لقد عرفته التوراة وعرفه الإنجيل معرفة مفصلة وشاملة، مع نطق وقول يؤكد ذلك وهناك فرق بين أن (تعرف) وبين أن (تقول)؛ فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف، ولكنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم واعترفوا بذلك، فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، قال الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لقد أخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه نصرة على الكافرين، فقالوا: سيأتي نبي ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
إذن هم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من قبل مجيئه، فلما جاء كفروا به. انظر إلى العدالة من الحق سبحانه وتعالى، حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية. {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى، هؤلاء يشهدون أن محمدا رسول الله، وإن القرآن بعدالته ينصف التوراة والإنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم، {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ} لقد آمنوا به رسولا من منطوق كتبهم، ثم أعلنوها حينما قالوا: (يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم).
فإذا كانوا قد صنعوا ذلك، فكيف يهديهم الله؟ إنهم ليس لديهم الاستعداد للهداية، ولم يقبلوا على الله بشيء من الحب، لذلك فهو سبحانه لا يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على الله لأعانهم قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
وهؤلاء لم يهتدوا، فلذلك تركهم الله بدون هداية المعونة، وهذا يوضح لنا معنى القول الحق: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 88].
إن الذين لم يهتدوا بهداية الدلالة فلم يؤمنوا يضلهم الله أي يتركهم في غيهم وكفرهم، أي أنه ما دام هناك من لم يؤمن بالله فهل يمسك الله بيده ليهديه هداية المعونة؟ لا؛ لأنه إذا لم يؤمن بالأصل وهو هداية الدلالة، فكيف يمنحه الله هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بالله أكان يصدق التيسيرات التي يمنحها الله له؟ لا. إنه لا يصدقها، ويجب أن تعلم أن هداية الدلالة هداية عامة لكل مخاطب خطابا تكليفيا، وهو الإنسان على إطلاقه، أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بالله وكأن الحق يقول له: (أنت آمنت بدلالتي فخذ معونتي) أو (أنت أهل لمعونتي) أو (ستجد التيسير في كل الأمور)، أما الذي كفر فلا يهديه الله.
إن الحق سبحانه لا يعين الكافر؛ لأن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً من المُعان، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال به هذه المعونة، فهو لم يؤمن، لذلك يكون القول الفصل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. إن هؤلاء هم الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله كما قال الحق: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالا، ويختم على قلوبهم، فلا يعرفون طريقا إلى الإيمان: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86].
لقد جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم، وهو الشرك بالله، ولكن هل هذه الآية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به؟
إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، أم من الذين آمنوا برسالة رسول الله ثم كفروا به، كما حدث من بعضهم في عهد الرسول، مثال ذلك طعمة بن أبيرق، وابن الأسلت والحارث بن سويد، هؤلاء أعلنوا الإيمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها، تاب منهم واحد وأخذ له أخوه ضمانا عند رسول الله، والباقون لم يتوبوا.
إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86].
ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلاء بقوله الحكيم: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ}

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}
واللعنة هي الطرد من الرحمة، والله يعلم كل ملعون منهم، وما داموا قد طُرِدوا من رحمة الله فالملائكة وهم المؤمنون بالله إيمان المشهد يرددون اللعنة، والمؤمنون من خلق الله يرددون اللعنة، وكذلك يلعنهم جميع الناس، وكيف يلعنهم كل الناس سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ كيف يلعنهم الكافرون؟ إن الكافر عندما يرى إنسانا يرتكب معصية ما فإنه ينزله من نظره ويحتقره وإن لم يكن مؤمنا.
وهَب أن كافرا وجد إنسانا يخرج على المنهج ويفعل معصية ويرتكب جُرماً ألا يلعن الكافر مثل ذلك الإنسان؟ إنه يلعنه لأن الفطرة المركوزة التي فطر الله الناس عليها ترفض ذلك ولا ترتضيه.
وهكذا شاء الحق أن يجعلهم ككفار يتلاعنون فيما بينهم، ونجد أن جميع الناس يلعنونهم كذلك؛ لأنهم قد خرجوا عن منهج الله بالكفر بعد الإيمان، وجرهم ذلك إلى اقتراف الآثام، وهكذا تصبح الملاعنة من الجميع، وهم مع ذلك خالدون في اللعنة قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}
ومعنى {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} أي أن العذاب يظل دائما أبدا وقد يظن بعض الناس أن الكافر ما دام سيدخل النار ويحترق فسوف ينتهي أمره. لا إنه يغفل قضية ويذكر قضية، إنه يتناسى قول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 56].
إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا، وقد يقول بعضهم: إن العلم قد توصل إلى أن الإنسان تقل حساسيته للألم الناتج من الضرب بالسوط بعد العشرين سوطا الأولى، وهو بذلك ينسى أن العذاب في الآخرة على نمط آخر، إن الله يخلق للمعذب إحساسا جديدا ليظل مستشعرا دائما العذاب، قال الحق: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي أن عذابهم مؤكد ولا يتركهم الحق ليستريحوا من عذابهم. وبعد ذلك يقول تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
والحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم، يحب أن يكونوا على ما يود ويحب؛ لأنهم صنعة الله فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين.
وقد أمر عباده أن يتوبوا إليه توبة نصوحاً أي توبة صادقة خالصة لا رجوع فيها هذه التوبة تتسم بالاقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى ورد المظالم لأصحابها إن كانت هناك مظالم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».
وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلاح الكون؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن من غفل عن منهج الله ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسداً مرتكبا لكل الحماقات، فكأن الله بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب الإسراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى الله، كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد، إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون، ولصالح الإنسان لينعم بمحبة الله، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89].
فبرغم كفرهم السابق إلا أن الله برحمته لا يدخلهم في الوعيد؛ لأنهم مطالبون بالتوبة والإصلاح، ومعنى كلمة (أصلح) أنه زاد شيئا صالحا على صلاحه. والكون ليس فيه شيء فاسد. اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحا، لن يفسد الشيء الصالح.
وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر صالح حتى يَجْبُر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة.
ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للإصلاح وللخير، هم أناس قد تكون فيهم زاوية من زوايا الإسراف على نفوسهم في شيء، وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالات كثيرة جدا، كأن الله يقول لكل منهم: أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلائلي، إنه الحق يجعل من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير، فيتصدق على الفقراء، وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط.
ولكن الذين أسرفوا على أنفسهم هم الذين تلهبهم تلك السياط، فساعة يرى الواحد منكم إنسانا قد أسرف على نفسه فليدع الله له بالهداية، واعلم تمام العلم أن الله سيُسَخِّر منه ما يفعل به الخير؛ لأن أحدا لن يسرق الكون من خالقه أبدا. وهذا ينطبق على من قال عنهم الله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} (وأصلحوا) أي عملوا صلاحات كثيرة لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائما، فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لاحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها.
وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ...}.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
هذه الآية تحدث عن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وازدادوا كفرا، هؤلاء لا تقبل توبتهم وهم الضالون، وقد جاءت مقابلة للآية السابقة، أناس تابوا وأناس لم يتوبوا. لكن كيف يزداد الكفر؟ إنه قد كفر في ذاته، وبعد ذلك كان عائقا لغيره عن أن يؤمن، وهو لا يكتفي بخيبته، بل يحاول أن ينشر خيبته على الآخرين، وفي ذلك ازدياد في الكفر والعياذ بالله، وهذا القول قد نزل في بعض من اليهود الذين آمنوا بالبشارات التي تنبأت بمقدم عيسى عليه السلام، فلما جاء عيسى كفروا به، ولما جاء محمد ازدادوا كفرا.
لقد كفروا بعيسى أولا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد وادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه، وهؤلاء ليسوا من الذين تابوا. أو أنهم أعلنوا التوبة باللسان، ولم يتوبوا التوبة النصوح، (والراجع في توبته كالمستهزئ بربه). وقانا الله وإياكم هذا المنقلب.
وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ...}.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
لقد كفروا، ولقد يقدر الله لهم أن يتوبوا، فماتوا على الكفر، ويريد الله أن يعطينا حكما خاصا بعملهم في الدنيا، وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الآخرة، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختيارا، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم، وهنا للعلماء وقفة، فهل ملء الأرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهبا؟ نقول له: لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة.
هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهبا، نقول له: هذا الإنفاق لا ينفع، مع الخيانة العظمى وهي الكفر، فما دام غير مؤمن بإله، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس، وصار منفقا على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة، لذلك فليس له عند الله شيء، فالذي يعمل عملا، عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهبا فلن يقبل منه. لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس، والناس يعطونه حقه من الثناء، سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك، إنه ينال أجره من الإنسانية، وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفعلت ليقال وقد قيل».
كأن الله يقول له: لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الآخرة، لم يكن في بالك أن الملك لي، قال سبحانه: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وبعض الناس يقول: كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملئوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول: لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس، فلا بخس في حقوقهم، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء، فيظل السائر متجها إلى وهم الماء، إنه يصنع الأمل لنفسه، فإذا جاءه لم يجده شيئا، ويفاجأ بوجود الله، فيندم ويتلقى العذاب، وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو أنفقه في أي خير في الدنيا، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهبا، لو افتدى به نفسه في الآخرة، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهبا، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئا: يقول الحق: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
{أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي إن لهؤلاء عذابا أليما؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى الله وله مطلق القوة والقدرة، لذلك فالعذاب لن يطاق. ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب. لأنه لن يجد ناصرا له، ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول: إن فلانا يتعذب فهيا بنا ننصره، لا يأتي أحد لينصره.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ...}.
المصدر :- موقع نداء الايمان - daily Quran

تعليقات

التنقل السريع