القائمة الرئيسية

الصفحات

الورد اليومي من القران الكريم - صفحة ٦٩ - وتفسير الشعراوي | مدونة خواطر لتغير حياتك

الورد اليومي من القران الكريم صفحة ٦٩ وتفسيرها للشيخ الشعراوي :-


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)}
وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار، والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس الإيمانية المسلمة، ويحاول أن يتسلل إليها، مثلما قلنا: إن جماعة من المنافقين قالوا: قتل محمد، ولم يعد فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا. والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا: نذهب إلى ابن أبي- المنافق الأول في المدينة- ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا الأمان.
ولذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ}، فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فلا تطلبوا النصير من الكافرين، ولكن اطلبوه ممن آمنتم به. وينزل القول الحق: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين}

{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
ألم يقل أبو سفيان: (لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم)، فقال لهم النبي قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم، وعندما قال: يوم بيوم، أي يوم أٌحد بيوم بدر، الحرب سجال. فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: لا سواء، أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فكيف تكون سواء وكيف تكون سجالاً!؟
{بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ونفهم قول الحق: {خَيْرُ الناصرين} أي يجوز ان يوجد الله بشراً كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصراً سطحياً، لا نقول ان هذا نصر انما النصر الحقيقي هو النصر الذي ياتي من الله، لماذا؟ لأن النصر أول ما يأتي من ناحية الله فاطمئن على أنك خالص ومخلص لله والا ما جاءك نصره، فساعة يأتيك نصر الله فاطمئن على نفسك الايمانية وانك مع الله. وقول الحق: {خَيْرُ الناصرين} دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في عرف البشر. وقد قال المؤمنون: يارب نحن ضعاف الآن وإن لم نذهب لأحد ليحمينا ماذا نضع؟ فيوضح لهم الحق: كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر، وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛ لأنهم غير مأمونين عليكم. وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب}. فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَدَدِهم؟! عددهم وأموالهم تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة.

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل. فساعة قالوا لأبي سفيان: إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل، وقادم إليكم في حمراء الأسد. ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا.
وكلمة {سَنُلْقِي} مأخوذة من (الإلقاء) وهو لا يكون إلا لمادة وعين. ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول: (فألقى الألواح)، هذه حاجة مادية. قال تعالى: {وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني} [الأعراف: 150].
إنه أمر مادي.. ونحن نقول: ألقى الحجر. والحق سبحانه يقول: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44].
إنها حبال، أي أمر مادي. وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان.
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي ب (نون العظمة)، {سَنُلْقِي} ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي ب (نون العظمة) كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة، فنأتي ب (نون العظمة). لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة، وننزله بعلم وننزله ببصر، وننزله بقيومية، وننزله بقبض وننزله ببسط، فقوله: {إِنَّا نَحْنُ} فكأن نون العظمة تأتي هنا، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول: (إنني أنا الله). لم يقل إننا، ولكن في الإنزال يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ ف (نون العظمة) تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله، ويحتاج إلى حكمة، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك، وباسم الحكيم الذي يحكمك.
وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة، فلا يقول لك: هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها، فيقول لك: هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال. قال: (باسم الله)، وهي تضم كل صفات الكمال.
إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت (نون العظمة) التي نسميها (نون الجمع) نجد أننا نقول: (نحن) للجماعة. أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر، ألم يقولوا في الملكية: (نحن الملك)، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة. إنما هو (نون العظمة)، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال، لذلك قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه. إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟.
وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب، لماذا؟ (بما أشركوا). إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل، والشركاء لا يفعلون. ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم. فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى، ولو كان لهم آلهة قادرة- كما يدعون- لقالوا لتلك الآلهة: رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع، بل ضره أقرب من نفعه.
{بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة (السين واللام والطاء) ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه. ويقولون: فلان سليط اللسان، أي قادر أن يسب، إذن فالسلطة هي: القهر، والقوة التي ترغم على الفعل، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا: إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].
وقلنا إن السلطان نوعان: إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية.
والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم.
إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية، لا هذا ولا ذاك، فما الحكاية إذن؟ قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}. أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء، ولا سلطان دليل أقنعكم به.
ويذيل الحق الآية بقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه. وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو- أي الكافر- مأواه ومثواه الذي يرجع إليه. ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب: (وإليه تَرجَعون) وقوله: (وإليه تُرجعون). {وَبِئْسَ مثوى الظالمين}.. أي مثوى لا مفر بعده أبدا، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ ما أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ..

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
ونعرف أن في {صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نفعولين: الأول هو ضمير المخاطبين في قوله: {صَدَقَكُمُ}، والثاني هو قوله (وَعْد) المضاف إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة (الله) فهو سبحانه قد أحدث وعداً، والواقع جاء على وفق ما وعد. لقد قال الحق: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
وقال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
والآيتان تؤكدان قضية وعدية، بعد ذلك جاء التطبيق العملي.. فهل وقع الوعد أو لم يقع؟ لقد وقع، ومتى؟ فهل يشير الحق في هذه الآية إلى موقعة بدر؟
{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. و{تَحُسُّونَهُمْ} أي تُذهبون الحس منهم، والحس: هو الحواس الخمس، ومعنى أذهبت حسه يعني أفقدته تلك الحواس. {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} وقد حدث، وتمكنتم منهم؛ تقتلونهم وتأسرونهم، أو الحس: هو الصوت الذي يخرج من الإنسان، وما دام فقد الحس يعني انتهى، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فحينما صدقتم لقاءكم لعدوكم على منهج الله صدق الله وعده؛ هذا في بدر.
أما هنا في أُحد فقد جاء فيكم قوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم. {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ} أمر الرسول {مِّن بَعْدِ ما أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} وهي الغنائم، {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة}. كأنه سبحانه يعطينا العبرة من معركتين: معركة فيها صدق وعد الله، وفعلا انتصرتم، وأيضا صدق وعد الله حينما تخليتم عن أمر الرسول فحدث لكم ما حدث. إذن فالمسألة مبسوطة أمامكم بالتجربة الواقعية، ليس بالكلام النظري وليس بالآيات فقط، بل بالواقع.
أو أن الأمر كله دائر في أُحد، نقول فرضا: هو يدور في أُحد ودع بدرا هذه، حينما دخلتم أيها المسلمون أول الأمر انتصرتم أم لم تنتصروا؟ لقد انتصرتم، وطلحة بن أبي طلحة الذي كان يحمل الراية للكفر قتل هو وبضعة وعشرون، الراية الكافرة قد سقطت في أول المعركة، وحامل الراية يقتل وهذا ما وضحه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} فجماعة تقول: لنبق في أرض المعركة، وجماعة تقول: ننسحب. ورأيتم الغنائم فحدث منكم كذا وكذا. فتأتي النكسة، ولو لم يحدث ما حدث لكان من حقكم أن تتشككوا في هذا الدين، إذن فما حدث دليل على صدق هذا الدين، وأنكم إن تخليتم عن منهج من مناهج الله فلابد أن يكون مآلكم الفشل والخيبة والهزيمة.
{حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر}، فجماعة قالوا: نظل كما أمرنا الرسول، وجماعة قالوا: نذهب إلى الغنائم {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة}.. وما دمتم قد تنازعتم وقالت جماعة: لنتمسك بمواقعنا، وقالت جماعة أخرى: لنذهب إلى الغنائم، إذن فالذي أراد مواصلة القتال إنما يريد الآخرة ولم تلهه الغنائم، والقسم الذي أراد الدنيا قال: لنذهب إلى الغنائم.
وفي هذه المسألة قال ابن مسعود رضي الله عنه: والله ما كنت أعلم أن أحداً من صحابة رسول الله يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أُحد.
أي أنه لم يكن يتصور أن من بين الصحابة من يريد الدنيا، بل كان يظن أنهم جميعا يريدون الآخرة، فلما نزل قول الله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} عرف ابن مسعود أن من الصحابة من تتقلب به الأغيار. وذلك لا يقدح فيهم؛ لأنهم رأوا النصر، فظنوا أن المسألة انتهت؛ لقد سقطت راية الكفر، وقتل المؤمنون عددا من صناديد قريش. ولقد عفا الله عن المؤمنين وغفر لهم ما بدر منهم من مخالفة لأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} نعم لأنكم كنتم مشغولين بقتالهم قبل أن تنظروا إلى الغنائم، فلما نظرتم إلى الغنائم اتجه نظركم إلى مطلوب دنياكم، فانصرفتم عنهم، ولم تجهزوا عليهم ولم تتم لكم هزيمتهم وقهرهم، {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وابتلاؤكم في هذه الغزوة إنما هو رياضة وتدريب على المنهج، كأنهم غزوة مقصودة للابتلاء، فترون منها كل ما حدث. وبعد ذلك نجحت التجربة، فبعد هذه المعركة لم ينهزم المسلمون في معركة قط.
ولذلك يقولون: الدرس الذي يعلم النصر في الكثير لا يعتبر هزيمة في القليل. والمثال على ذلك: لنفرض أن ولداً من الأولاد رسب سنة، ثم حمل ذلة الرسوب، نجده ينال بسبب ذلك مرتبة متميزة بعد ذلك بين العشرة الأوائل، إذن فالرسوب الأول له كان خيرا.
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} لأنه كان لكم وجهة نظر أيضا عندما تصورتم أن المعركة انتهت بسقوط راية الكفر ومقتل طلحة بن أبي طلحة ومقتل بعض من الصناديد في معسكر الكفر، فظننتم أن المسألة انتهت، لكن كان يجب أن تذكروا أن الرسول قال لكم: اثبتوا في مراكزكم وأماكنكم حتى لو رأيتمونا نتبع القوم إلى مكة، ولو رأيتموهم يدخلون المدينة.
أيوجد تحذير أكثر من ذلك!؟ {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وسبحانه جل وعلا لم يخرجهم من الحظيرة الإيمانية بهذا القول الحكيم. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ...}.

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} هنا جاء لهم بلقطة من المعركة، حتى إذا سمع كل واحد منهم هذا الكلام يستحضر الصورة المخزية التي ما كان يصح أن تحدث، {إِذْ تُصْعِدُونَ}، فيه (تَصْعد)، وفيه (تُصعِد) وهنا {تُصْعِدُون} من (أَصْعَد)، و(أًصعد) أي ذهب في الصعيد، والصعيد الأرض المستوية حتى تعينه على سرعة الفِرار. إنما (صَعِدَ) تحتاج إلى أن يكون هناك مكان عالٍ يصعدون إليه. وهم ساعة أرادوا أن يفروا جَرَوْا إلى الأرض السهلة ومَشَوا، فكل منهم لا يريد أن يتعثر هنا أو هناك، إذن فالمناسب لها {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} والفار لا ينظر هنا أو هناك؛ ليس أمامه إلا الأرض السهلة.
{وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تعرجون على شيء، والأهم من ذلك أن هناك تنبيها من القائد الأعظم وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدعوكم (والرسول يدعوكم في أخراكم) أي يناديكم من مؤخرتكم طالبا منكم العودة إلى ميدان القتال (فأثابكم غما بغم). أنتم غَمَمْتُم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنكم خالفتم أوامره، فوقفكم الله هذا الموقف.
كلمة {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} كأنه يقول: عاقبكم. ولكنه سبحانه يأتي بها مغلفة بحنان الألوهية {فَأَثَابَكُمْ}. إذن فهي ثواب.. أي أن الحق سبحانه وتعالى بربوبيته وبألوهيته؛ يعلم أن هؤلاء مؤمنون فلم يَقْسُ عليهم، قال: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} فكأن ما حدث لكم تخليص حق.
{لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} ولو لم تحدث مسألة الحزن والخزي والذلة لشغلتكم مسألة أنكم فاتتكم الغنائم والنصر، ولظل بالكم في الغنائم؛ لأنها هي السبب في هذا. كأن الغم الذي حدث إنما جاء ليخرج من قلبكم لقطة سيل اللعاب على الغنيمة. وما أصابكم من القتل والهزيمة، {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ ما أَصَابَكُمْ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي أنه سبحانه يقدر ما الذي استولى عليكم، لأن من الجائز {والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} أنهم لم يسمعوا النداء من هول المعركة، {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وهو سبحانه خبير بكل فعل وإحساس. ويقول الحق من بعد ذلك: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية...}.
المصدر :- موقع نداء الايمان - daily Quran

تعليقات

التنقل السريع