صفحة ٧٥ من القران الكريم وتفسير الشيخ الشعراوي لسورة ال عمران صفحة ٧٥ :
تفسير الآية رقم (187):
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
ونعرف- من قبل- أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم، هذا العهد هو: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}.
فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14].
والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159].
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه. والذي لم ينسوه كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه.
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا. بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
وقولهم: {هذا مِنْ عِنْدِ الله} ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله، وكلمة {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} لابد أن توسع مدلولها قليلاً، ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشتري بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
إذن فقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} يعني لتبينن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله. وهكذا نجد أن المعاني تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان.
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً. والنبذ له جهات، ينبذه يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ}.
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك، يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} أي أنهم جماعة و(ظهور) جمع (ظهر) كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره. وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. والمشتري هنا هو الثمن، والثمن يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى {واشتروا بِهِ ثَمَناً}.
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} لماذا؟ لأنك قد تظن أن بالمال- وهو الثمن- تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
وبعد ذلك يقول الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ
تفسير الآية رقم (188):
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول- وهو فرح المنافقين- والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76].
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد ان تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق.
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الآية السابقة تقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال.
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل لأنه خلع على أمره غير الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة.
{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء، إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك.
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يٌغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك.
لكن لابد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة (ذي القرنين) يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83-84].
كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله- جلت قدرته-.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى.
أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول: لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.
ويتابع الحق: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا، إنما {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود.
ويتابع الحق: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}.
والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشرى فيها الشرّ. وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف.
يقول الحق: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم. ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع هدفاً.
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لابد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان. وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة.
وهكذا تجد أن قوله الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ}.
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله. وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح.
هذه أول مرحلة. ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب، ويحشره الله ضمن من قال فيهم: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب}.
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً له، ويطلقون كلمة (مفازة) على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً، ولا يسمونها (مهلكة) لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها (مفازة) تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت (مفازة) تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان ب (السليم).
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً. قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال (خذ المملوء) ولا يقول: (خذ الفارغ) وهذا لون من التفاؤل.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكن الحق بعد هذه الآية قال: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات...}.
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول- وهو فرح المنافقين- والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76].
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد ان تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق.
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الآية السابقة تقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال.
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل لأنه خلع على أمره غير الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة.
{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء، إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك.
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يٌغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك.
لكن لابد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة (ذي القرنين) يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83-84].
كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله- جلت قدرته-.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى.
أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول: لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.
ويتابع الحق: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا، إنما {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود.
ويتابع الحق: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}.
والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشرى فيها الشرّ. وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف.
يقول الحق: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم. ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع هدفاً.
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لابد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان. وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة.
وهكذا تجد أن قوله الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ}.
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله. وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح.
هذه أول مرحلة. ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب، ويحشره الله ضمن من قال فيهم: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب}.
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً له، ويطلقون كلمة (مفازة) على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً، ولا يسمونها (مهلكة) لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها (مفازة) تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت (مفازة) تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان ب (السليم).
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً. قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال (خذ المملوء) ولا يقول: (خذ الفارغ) وهذا لون من التفاؤل.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكن الحق بعد هذه الآية قال: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات...}.
تفسير الآية رقم (189):
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن ف {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تدل على أن الله حين يوعد فهو سبحانه قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى. فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا (أحد صمد)، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2].
فما دام (هو الله أحد) فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبداً.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل، والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟ {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة:
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن ف {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تدل على أن الله حين يوعد فهو سبحانه قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى. فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا (أحد صمد)، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2].
فما دام (هو الله أحد) فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبداً.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل، والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟ {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة:
.تفسير الآية رقم (190):
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}
سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية، لأن الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون، وفيه سماء بهذا الشكل: بلا عمد، وتحتها الكواكب، وأرض مستقرة، بالله ألا يفكر فيمن صنع هذا؟ والله لو أن واحدا استيقظ من نومه ووجد سرادقا قد نصب في الميدان ليلا لوقف ليسأل: ما الحكاية؟ فما بالنا بواحد فتح عينيه فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟
ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحا يجلى لنا قضية الإيمان بالفكر الإنساني، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج المراد لمن خلق، بل تحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى من خلق، لأننا قلنا من قبل: لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناسا ولأنه مجهد غلبه النوم، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبل أن يمد يده لينتفع بها، ألا يجول فكره فيمن صنع هذه؟ إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمن جاء بها قبلما يذوق الطعام، رغم أنه جوعان، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا هذا الكون العجيب، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه، ولو كان أحد قد ادعى أنه خلقه.. لكانت المسألة تسهل، لكن أحداً لم يدع صنعه. هذا الكون الذي نراه جميعا بانتظامه الرائعِ، وقوانينه الثابتة. هل قال أحد: إنني صنعته؟ لا إذن فالذي قال: إنني صنعته تَسْلم له الدعوة، حتى يأتي واحداً آخر يقول: أنا الذي صنعته. لم يحدث هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله، ولذلك جاء قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} [النمل: 60].
كأن الحق يقول: إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟ ولم يجرؤ أحد على أن ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم. ومثال ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها، كي يصنعوه ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه سبحانه كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة، وقبل أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان أراد أن يترف الحياة، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى وفي المادة، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية واللمعان، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل.
واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى معامل وعلماء، كل هذا من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه، انظر ما يحتاجه لصنعه؟ احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون معادلات كيماوية، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟
إن كل صنعة تحتاج على قدرها، ولم يقل أحد: إنني صنعتها، فيقول الحق: من الذي صنع كل هذا؟ وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه، وهو القادر أن يقول: أنا الذي خلق السماء والأرض؟ فماذا يفعل المسئول؟ إنه يتخبط في إجابته ثم في النهاية لا يجد إلا الله.
وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما يريد {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ} وجاء هنا بالحاجة المباشرة.. {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة ونضارة، وطراوة، وظل، وأزهار، وثمار، ولم يختصر الأمر فيقول: (لتأكلوا منها) لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل من يرى، ويستمتع بما يراه. وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره، صحيح أنك لا تمد يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك. وأن تمتع أنفك برائحته الجميلة؟ لا.
وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمن يملك ولمن لا يملك فقال: (ذات بهجة) ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك: إياك أن تفهم أن الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا ننتفع بها أكلاً، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو، وبه خشب نحتاج إليه، وبجانب هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها.
ولذلك يقول الحق: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
وسبحانه يستفهم من الإنسان (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون).
بسطحية راح أحد المستشرقين يردد: أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟ ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه. ويقول: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61].
إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي، ويوضح الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10].
فلماذا باركت يا الله؟ بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها، فالقوت هو ما يُنتفع به في استبقاء الحياة. ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع، والزرع ينمو دائماً في الأرض الخصبة، وخصوبة الأرض تكون في الوديان، والوادي هو المكان الذي يكون بين جبلين. ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟ لأن المطر حين ينزل من السماء، إنما ينزل على الجبال، والجبال كما تعرف معرضة لعوامل التعرية، فالحرارة تأتي بعد البرودة، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة، تقبض المادة، وما بين القبض والبسط يحدث للجبال التشقق السطحي. وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات، فتنزل من قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة، ونسميها نحن الغِرْين أو الطمى، كالذي كان يأتي لنا من الحبشة، والذي أحدث خصوبة وادي النيل.
إذن فالجبال هي مخازن الأقوات. ومن فضل الله أن جعل الجبال صلبة، فلو أنها كانت هشة من أول الأمر، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها، ولجعل الأرض سطحاً واحداً، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة. وبعد ذلك يأتي الجدب. ونعلم أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت، فكيف يكثر الحق سبحانه من القوت؟
نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي، ونعرف أن ضيق الوادي يكون في أدناه، واتساع الوادي في أعلاه، والجبل عكس الوادي. فضيق الجبل يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعا من قاعدته. وعندما ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي، فيرفع من مستوى سطح الوادي، وتتسع مساحة الوادي. وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين. وعندما يشاء الحق سبحانه إيذان النهاية، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة: قومي الآن.
وهو يقول: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وفي موقع آخر يقول الحق: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19-20].
الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض فيجد الماء عذباً، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح. لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟ إذن لابد أن للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغي أحد على الآخر.
لماذا؟ لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى. ونجد دائماً منابع الأنهار عالية وتصب في البحر. والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب، حتى لا يطغى الماء المالح على الماء العذب، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ بالماء، ويريد للزرع أن ينمو، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء في بطن الأرض أو في البحار، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً ليصير سحاباً، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً. والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً، هو. هو، لا يزيد ولا ينقص.
فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته، فهل ظلت تلك الأطنان في جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟ إن الإنسان لا يختزن إلا الموجود فيه الآن من الماء. والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من الماء، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض. إذن فكمية المياه. واحدة، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله.
وبعد ذلك يقول الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].
وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67].
ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم، فهو لا يكذب على نفسه، حتى الكافر بالله عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك إلهاً واحداً خالقاً. فيقول: يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62-64].
كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190].
إنها ظواهر كونية. واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء آخر. إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان: فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما أي كل منهما خليفة للآخر.
والزمن يمثل ذلك.
واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير، والليل مظلم، والنهار محل حركة، والليل محل سكون. فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات، ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها هو وغيره من الناس وهكذا.
إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم، وإمداداً حين أمدّ من عُدم، وإمداداً آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده، وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه، لكنها لا تكون مصحوبة بالبركة.
ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس إلى الخير. فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات. لكن الله لا يعطيك البركة إذا أخذت النعمة وتركت المنعم. فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة. فحين ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).
إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك. ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه.
ولذلك يقولون: إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلق أو هندام تقول حين تراها: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛ لأنك رددتها إلى مَن خلقها، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد، والذي يحرسها هو الكلمة الواضحة (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).
ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ ما أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 32-36].
فماذا قال له صاحبه؟ {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 37-40].
فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم وهذا يوضح لنا معنى قول الحق: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه بالبركة، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة عليك.
إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟
تكون إجابة الحق: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً...}.
.تفسير الآية رقم (191):
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}
إنهم يقولون: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} لأنك حق، وخلقت السماوات والأرض بالحق، ووضعت لها نواميسها وقوانينها بالحق، فيجب أن نستقبل النعمة التي خلقتها لنا بالحق. فإن استقبلها بعض الناس بغير الحق، فإنها تكون وبالاً عليهم. ويقال: إن المؤمن الصادق في بني إسرائيل قبل رسالة عيسى عليه السلام كان إذا عبد الله بإخلاص ثلاثين سنة فإن غمامة تظله حيث سار. فكانوا عندما يرون واحداً من هؤلاء يسير تظلله غمامة، فهم يعرفون أنه عبد الله بإخلاص ثلاثين عاماً.
وعَبَدَ واحد منهم الله ثلاثين سنة ولم ير السحابة تظلله، فشكا ذلك لأمه فقالت له: لعل شيئا فَرطَ منك. فقال لها: يا أماه لا أذكر. فقالت له: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تفكر. فقال لها: لعل ذلك حدث. فقالت: الذي يأتيك من ذاك. وهذه القصة تذكرنا بضرورة التفكير في الله دائماً.
ويروى عن سيدنا الإمام عليّ- رضي الله عنه وكرم الله وجهه- أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا استيقظ في الليل، استاك، ثم نظر إلى السماء.
إذن فالنظر إلى السماء هو النظر إلى العلو. والنظر إلى الأرض أيضاً هو تأمل في حكمة الخالق، لكن النظرة إلى السماء تجعل الإنسان يفطن إلى علو الخالق. ولذلك فالعربي الذي استلقى على ظهره نائماً، واستيقظ ففطن إلى لون السماء الأزرق البديع، والنجوم تتلألأ فيها فقال: أشهد أن لَكِ رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي. ولقد عرف الرجل متى يدعو الله وكيف يدعو، لذلك غفر الله له.
وفيما روت كتب السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ليلة ونام، وكانت ليلة عائشة رضوان الله عليها. قالت عائشة لعبدالله بن عمر رضوان الله عليه. فنام بجوارى حتى مس جلدي جلده، ثم قال: (يا عائشة هل تأذنين لي الليلة في عبادة ربي).
لقد استأذن منها رسول الله في حقها لأن الليلة ليلتها. وأضافت عائشة: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك، وقد أذِنتُ لَكَ.
لقد احتاطت الاحتياط الجميل، فهى تحب الرسول، وتقول: (وأنا أحب قربك) وهذا القول له معنى جميل، وحدث أن قال بعض المتنطعين على دين الله: إن رسول الله كان كبير السن بفارق كبير بينه وبين عائشة، وقولها ذلك إنما عن زهد فيه.
لكنها عائشة- رضي الله عنها- ردت على ذلك من قبل أن يقال. فقالت: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك وقد أذنت لك. وهذا درس يعطيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نتعلم كيف نعامل أهلنا، حتى ولو كان الأمر الذي يشغلنا عنهم هو العبادة، وهو لا يريد أن ينشغل المؤمن عن رعاية أهله بعد أداء ما عليه من فروض، حتى ولو كان عبادة إلا بعد استئذان الأهل.
لماذا؟ لأن الله طلب من الزوجة في العبادة غير المفروضة ألا تتطوع حتى تستأذن زوجها. فالزوجة إن صلت تطوعاً، أو صامت تطوعاً لابد أن تستأذن زوجها، فإن أذن لها، فبها، وإن لم يأذن فليس لها أن تقوم بهذه العبادة غير المفروضة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
لأن الزوج حين يقرب زوجته فهو يريد أن يعفها عن التطلعات البشرية؛ لذلك فعندما تريد الزوجة أن تأخذ وقتها وخصوصا إن كان لها ضرائر، فهذا الوقت حق لها. فإن أراده الزوج للعبادة غير المفروضة فعليه أن يستأذنها. وقد تكون الحالة النفسية للمرأة في عدم وجود ضرائر أكثر قدرة على قبول استئذان الزوج لها ليتفرغ للعبادة. ولذلك فأنت ترى من أهل الفتوى الإيضاح الناجح لمثل هذا الأمر.
لقد ذهبت امرأة تشكو زوجها لعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وكان مضمون الشكوى أن زوجها لا يقربها، وكان مع عمر صحابي جليل. فقال له عمر ابن الخطاب: افتها. فقال الصحابي للزوج: يا هذا سنفرض أنك تزوجت أربعاً، فلزوجتك إذن ليلة بعد كل ثلاث ليال. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استأذن عائشة في عبادة ربه، فهذا معناه درس للأزواج أن يحسنوا معاملة الأهل إحساناً لا يجعل للمرأة تطلعا.
لكننا نجد أناساًَ لا يستأذنون أهلهم لا في العبادة، ولا حتى في سهرات المعصية. وهذا ما يفسد البيوت والأسر. إن ما يفسد البيوت أن يكون الزوج مشغولا عن الزوجة، ويذهب إلى أصحابه في المقهى أو في مكان آخر. ولا يهتم بأفراد أسرته.
لماذا لا يذهب إلى منزلة ليؤانس أهله؟ وليشبع رغبتهم ويجلس مع زوجته وأهله وأولاده وبذلك تطمئن الزوجة أن رجلها معها وليس في مكان آ خر، وذلك حتى تستقر الأمور. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن عائشة رضي الله عنها فتأذن له. قالت عائشة رضوان الله عليها: فقام إلى قربة فتوضأ ثم قام فبكى ثم قرأ فبكى، ثم أثنى على الله وحمده فبكى، حتى ابتلت الأرض، ثم جاء بلال، فقال: يا رسول الله صلاة الغداة. فرآه يبكي. فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال رسول الله: «أفلا أكون عبدا شكورا.. يا بلال لقد نزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 190-200]».
وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها».
هذا ما جاء عن سيدنا رسول الله في أواخر سورة آل عمران، تلك الأواخر التي تبدأ بقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار}.
إن في تلك الآيات المنهج والاستدلال، واصطحاب الحق سبحانه وتعالى وذكره على كل حال من القيام والقعود وعلى الجنب. إن الحق يقول: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ها نحن أولاء نرى أن مطلوب أولى الألباب هو أن يذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. وقال بعض العلماء في تفسير قول الحق: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ} إن المقصود بذلك هو الصلاة، فمن لا يستطيع الصلاة قائماً يصلي قاعدا.. ومن لا يستطيع الصلاة قاعدا فليصل مضطجعا.
ونقول لهؤلاء العلماء: لقد خصصتهم هذا المعنى حيث المقام للتعميم، لماذا لأن القرآن لا يتعارض مع بعضه، بل يفسر بعضه بعضا، والحق يقول عند صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 102].
وحتى لا يظن المؤمن أن الفروض الخمسة هي التي يذكر فيها الله فقط قال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103].
أي إنه حصلت الصلاة أولا، وحصلت الصلاة ثانيا، كأن ذكر الله أمر متصل واجب في الصلاة، وفي غيرها، وبعدها يتفكر المؤمنون في خلق السماوات والأرض ويعترفون أنه سبحانه لم يخلق هذا باطلاً. ويكون المطلوب أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
لماذا؟ لأن كل هذا الذكر لا يوفي حق ربنا علينا.. لذلك قالوا: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ...}.
تفسير الآية رقم (192):
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
إنها العظمة، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل النار. وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل، إنه سبحانه أعطانا توفيقا لذكره، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض، فهل يصح أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟
إنه الخزي والعياذ بالله. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي وليس لهم أنصار يمنعون عنهم عذاب النار.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي...}.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
إنها العظمة، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل النار. وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل، إنه سبحانه أعطانا توفيقا لذكره، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض، فهل يصح أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟
إنه الخزي والعياذ بالله. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي وليس لهم أنصار يمنعون عنهم عذاب النار.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي...}.
تفسير الآية رقم (193):
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون من آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة.
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا.
ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية.
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ. وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي.
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع.
هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي- كما قلنا- يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل.
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف.
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193].
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك. {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192].
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن (الذنب) شيء، و(السيئة) شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل المثال (كفارة اليمين) تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه، وهذا التكفير هو المقابل للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت.
لذلك فالمؤمنون قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك.
فعن أنس رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة).
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: (اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني). أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا.
والعباد المؤمنون يقولون: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا...}.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون من آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة.
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا.
ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية.
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ. وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي.
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع.
هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي- كما قلنا- يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل.
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف.
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193].
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك. {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192].
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن (الذنب) شيء، و(السيئة) شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل المثال (كفارة اليمين) تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه، وهذا التكفير هو المقابل للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت.
لذلك فالمؤمنون قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك.
فعن أنس رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة).
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: (اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني). أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا.
والعباد المؤمنون يقولون: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا...}.
تفسير الآية رقم (194):
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك، ولتسمع قول الحق استجابة لهم: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي...}.
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك، ولتسمع قول الحق استجابة لهم: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي...}.
تعليقات
إرسال تعليق