القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة شيقة طالوت وجالوت



بعد وفاة موسى عليه السلام استمر بحث بنى اسرائيل عن الملك والسيادة، طوال عهدهم مع الأنبياء، وكانوا يربطون كل دعوة بهذه القضية، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى إله وشريعة خاصة بهم, يعلون على غيرهم بواسطتها، أطاعوه، وإن دعاهم إلى دين صحيح متجرد من العنصرية، والخصوصية، طغوا وبغوا.
إنهم يريدون دينا، يعلون به من غير تعب أو عمل؛ ولذلك قالوا لموسى -عليه السلام- حين طلب منهم دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ومقاتلة الجبابرة الموجودين فيها، ليحلوا محلهم، قالوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
قضى الله عليهم أن يتيهوا في البرية أربعين عاما، كما قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} ، وفي مدة التيه توفي موسى وهارون -عليهما السلام- وتولى الحكم فيهم رجل قوي سار بهم إلى الأرض المقدسة، وتمكن من فتحها وطرد الجبابرة، وكان عليهم أن يشكروا الله على هذا الفتح الذي انتظروه طويلا، ويبرزوا شكرهم بطاعة الله، لكنهم عصوا ما أمرهم الله به، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
وبعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام استمروا فى المعصية، وغالوا فيها، فعاقبهم الله، وأنزل عليهم عذابا من السماء، وسلط عليهم ملكا ظالما، هو جالوت، فأذلهم وقتل كثيرا من رجالهم، وطردهم من الأرض المباركة، التي جاءوها مع يوشع بن نون، واستولى على أموالهم وممتلكاتهم ... وتعاقب عليهم عدد من الأنبياء، يجددون لهم دعوة موسى -عليه السلام- وذات يوم شعروا بذنوبهم، وتبين لهم أنهم لن يخرجوا من الذل والهوان، إلا بشيء من الشجاعة والإباء، فجاءوا إلى نبي زمانهم، وطلبوا منه أن يبعث الله لهم ملكا، يقودهم لقتال جالوت، ويجمع كلمتهم، ويرفع من شأنهم، ويعيد لهم شيئا من كرامتهم الضائعة.
رد عليهم النبي وهو يعرف طبائعهم: ألا تتوقعون أن تقعدوا عن الجهاد إذا فرض عليكم وأنتم الذين طلبتموه, وتحمستم له؟!
فأجابوه بأن مصلحتهم في الجهاد, وأن القعود عنه هوان وذل، ولا بد لهم منه بعدما أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأكدوا عزمهم وإصرارهم، فلما فرض عليهم نكصوا، ورجعوا إلا قليلا منهم.
يقول الله تعالى مصورا طلبهم القتال، وموقفهم منه بعد فرضه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 1.
اختار الله لهم رجلا, يتمتع بالعلم الواسع، والقوة البدنية، هو طالوت، فلما علموا به اعترضوا لسببين:
الأول: فقر طالوت؛ لأنه معروف بينهم بقلة المال، ورأوا أن هذا يصرف الأغنياء عن الاشتراك في القتال تحت قيادة طالوت.
الثاني: أنه رجل من العامة، فليس هو من سلالة الملوك، أو من سلالة الأنبياء، وتصوروا أنه بذلك لا يصح أن يكون ملكا مطاعا، فأخبرهم نبيهم أن ذلك اختيار الله العليم بكل شيء، الحكيم, القادر، والخير كله في اختيار الله تعالى، وقد رزق الله طالوت بسطة في العلم والجسم، ومشيئة الله نافذة لا يصح معارضتها، يقول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ للَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وكعادة الإسرائيليين في الجدل والمراء، عادوا مرة أخرى إلى نبيهم، وطلبوا منه أن يظهر طالوت آية من الله، تبين اختياره ملكا عليهم، وكأنهم بذلك يكذبون نبيهم في خبره لهم، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
وهذا التابوت هو الذي وضع فيه موسى الألواح يوم أن جاء بها من عند الله، وعرفهم نبيهم أن التابوت ستحمله الملائكة لهم؛ ليصدقوا، ويؤمنوا، ويجاهدوا عدو الله، وعدوهم تحت إمرة طالوت.
وأتاهم التابوت، وصار اليهود يأتون إليه، ويأخذون ألواحا منه، ويضعون غيرها مكانها، تحريفا لها، حتى لم يبق من الألواح إلا القليل؛ ولذلك أنذرهم الله تعالى بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
جاء طالوت، وأحضر لهم التابوت، بما بقي من ألواح موسى، فبايعوه ملكا عليهم، فدعاهم إلى الجهاد، وقتال أعدائهم الذين أذلوهم، وجهز جيشا كبيرا، سار به إلى عدوه وعدوهم، وأراد طالوت أن يفجأ العدو، وكان بينه وبين عدوه نهر، فأمر جنوده باجتياز النهر بلا شراب، أو استحمام، أو راحة, وعرفهم بضرورة تنفيذ أوامره؛ لأنها من الله، فمن أطاعه ولم يشرب فهو معه، ومن عصاه وشرب فلن يكون معه، وقد قال لهم طالوت ذلك؛ لأنه قادم على معركة، ومعه جيش من المهزومين الأذلاء، أمام جيش قوي، يعتز بانتصاراته وهيمنته، ورأى طالوت أهمية اختبار صمودهم أمام رغباتهم، وصبرهم أمام متاعهم، وحدد لهم جوانب الابتلاء والاختبار وهم على النهر، وكانوا عطاشا؛ ليتميز الصالح من غيره.
قال لهم طالوت ذلك، لكنهم خالفوه، فشربوا، وارتووا، واغتسلوا، فطردهم لعدم صلاحيتهم للمهمة القادمين عليها ...
طرد طالوت المخالفين, وأبقى الذين أطاعوه ولم يشربوا رغم قلتهم، فلما اقترب اللقاء نظر فريق ممن كانوا معه إلى الأعداء، ورأوهم كثرة فهابوهم، وخافوا من لقائهم، فرد عليهم المؤمنون الصادقون قائلين: إن الله تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة الصابرة على الفئة الكثيرة الظالمة، ونصر الله غالب، وهو على كل شيء قدير.
والتحم الفريقان، وسأل المؤمنون النصر من الله، ورجوه أن يلهمهم الصبر، ويثبت أقدامهم أمام الفئة الباغية، واشتد القتال، وكان داود -عليه السلام- شابا يافعا، اشترك في المعركة، وحمل مقلاعا، ووضع به حجرا، وصوبه نحو جالوت قائد الأعداء، وقذفه فقتله، وبقتل جالوت انهار العدو، وتفرق جنده، وانتصر طالوت ومن معه قال تعالى ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)

تعليقات

التنقل السريع