القائمة الرئيسية

الصفحات

الورد اليومي صفحة رقم ٢٩ وتفسيرها للشيخ الشعراوي

  •  اخي واختي من اراد تجارة رابحه فعليه بالتجارة مع الله وخير تجارة القران فمن اراد الدنيا فعليه بالقران ومن اراد الاخره فعليه بالقران ومن ارادهم معما فعليه بالقران فاجعل في يومك صفحة من القران لتنير بها قلبك وتغير بها حياتك الي الاحسن من الطاقه الايجابيه المكتسبه والرسائل الربانيه المرسله لك من خلال ايات الذكر الحكيم .
  • سلسله صفحة من القران بتفسيرها سوف نعرض كل يوم صفحه من القران لقراءتها كورد الي جانب تفسيرها.
  • تفسير صفحة رقم ٢٩ من القران للشيخ الشعراوي رحمه الله مقتبس من موقع الايمان  اللهم اصلح لنا دنيانا :-

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء ومزجها وأدخلها في الصوم، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تُخاطب كل الملكات الإنسانية، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا.
يقول الحق: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} وساعة تسمع {أُحِلَّ لَكُمْ} فكأن ما يأتي بالتحليل كان محرماً من قبل. والذي أحله الله في هذا القول كان المحرم عينه في الصيام، لأن الصيام إمساك بالنهار عن شهوة البطن وشهوة الفرج، فكأنه قبل أن تنزل هذه الآية كان الرفث إلى النساء في ليل الصيام حراماً، فقد كان الصيام في بدايته إمساكاً عن الطعام من قبل الفجر إلى لحظة الغروب، ولا اقتراب بين الزوجين في الليل أو النهار. فكان الرفث في ليلة الصيام محرماً. وكان يحرم عليهم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء وبعد النوم حتى يفطروا.
وجاء رجل وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهبت فلم أجد أهلي قد أعدوا لي طعاما، فنمت، فاستيقظت يا رسول الله فعلمت أني لا أقدر أن آكل ولذلك فأنا أعاني من التعب، فأحل الله مسألتين: المسألة الأولى هي: الرفث إلى النساء في الليل، والمسألة الثانية قوله الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} أي كلوا واشربوا إلى الفجر حتى ولو حصل منكم نوم، وهذه رخصة جديدة لكل المسلمين مثلها مثل الرخصة الأولى التي جاءت للمسافر أو المريض، كانت الرخصة الأولى بخصوص مشقة الصوم على المسافر أو المريض، أما الرخصة الجديدة فهي عامة لكل مسلم وهي تعميق لمفهوم الحكم.
وقد ترك الحق هذا الترخيص مؤجلا بعض الشيء لكي يدرك كل مسلم مدى التخفيف، لأنه قد سبق له أن تعرض إلى زلة المخالفة، ورفعها الله عنه، وانظر للآية القرآنية وهي تقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}. كلمة {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} هذه تعلمنا أن الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج، فعندما تركك تختان نفسك، ثم أنزل لك الترخيص، هنا تشعر بفضل الله عليك.
إذن فبعض الرخص التي يرخص الله لعباده في التكاليف: رخصة تأتي مع التشريع، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع، لينبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} وانظر الشجاعة في أن عمر رضي الله عنه، يذهب إلى النبي ويقول له: أنا يا رسول الله ذهبت كما يذهب الشاب، والذي جاع أيضا يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه جاع، وجاء التشريع ليناسب كل المواقف، فنمسك نهاراً عن شهوتي البطن والفرج، وليلاً أحل الله لنا شهوتي البطن والفرج، وهذا التخفيف إنما جاء بعد وقوع الاختيان ليدلنا على رحمة الله في أنه قدر ظرف الإنسان، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ}، و{الرفث} هو الاستمتاع بالمرأة، سواء كان مقدمات أو جماعاً.
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا عملية التحام الرجل والمرأة بكلمة الله، و(اللباس) هو الذي يوضع على الجسم للستر، فكأن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة واللباس أول مدلولاته ستر العورة. فكأن الرجل لباس للمرأة أي ستر عورتها، والمرأة تستر عورته، فكأنها عملية تبادلية، فهذا يحدث في الواقع فهما يلتفان في ثوب واحد، ولذلك يقول: {بَاشِرُوهُنَّ} أي هات البشرة على البشرة.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن المرأة لباس ساتر للرجل، والرجل لباس ساتر للمرأة، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يظل هذا اللباس ستراً بحيث لا يفضح شيئاً من الزوجين عند الآخرين. ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يحذرنا أن يحدث بين الرجل وأهله شيء بالليل وبعد ذلك تقول به المرأة نهاراً، أو يقول به الرجل، فهذا الشيء محكوم بقضية الستر المتبادل.
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}. ومادام هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، فيكون من رحمة التشريع بالإنسان وقد ضَمَّ الرجل والمرأة لباس واحد وبعد ذلك نطلب منهما أن يمتنعا عن التواصل.
إذن فقول: {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} كان مسألة حتمية طبيعية، ولذلك قال الحق بعدها: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ومعنى (تاب عليكم) هو إخبار من الله بأنه تاب، وحين يخبر الله بأنه تاب، أي شرع لهم التوبة، والتوبة كما نعرف تأتي على ثلاث مراحل: يشرع الله التوبة أولا، ثم تتوب أنت ثانيا، ثم يقبل الله التوبة ثالثاً، {وَعَفَا عَنْكُمْ} لأنه مادام قد جعل هذه العملية لحكمة إبراز سمو التشريع في التخفيف، فيكون القصد أن تقع هنا وأن يكون العفو منه سبحانه.
ويقول الحق: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} فلم يشأ أن يترك المباشرة على عنانها فقال: أنت في المباشرة لابد أن تتذكر ما كتبه الله، وما كتبه الله هو الإعفاف بهذا اللقاء والإنجاب، فالمرأة تقصد إعفاف الرجل حتى لا تمتد عينه إلى امرأة أخرى، وهو يقصد أيضا بهذه العملية أن يعفها حتى لا تنظر إلى غيره، والله يريد الإعفاف في تلك المسألة لينشأ الطفل في هذا اللقاء على أرض صلبة من الطهر والنقاء.
وحتى لا يتشكك الرجل في بضع منه هم أبناؤه، والحق سبحانه يريد طهارة الإنسان، فكل نسل يجب أن يكون محسوباً على من استمتع، وبعد الاستمتاع، عليه أن يتحمل التبعة، فلا يصح لمسلم أن يستمتع ويتحمل سواه تبعة ذلك، فالمسلم يأخذ كل أمر بحقه.
{فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي ما كتب الله من أن الزواج للإعفاف والإنجاب. وفي ذلك طهارة لكل أفراد المجتمع. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
ويتابع الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} أي إلى أن يتضح لكم الفجر الصادق. وكان هناك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أذانان للفجر، كان بلال يؤذن بليل، أي ومازال الليل موجوداً، وكان ابن أم مكتوم يؤذن في اللحظة الأولى من الفجر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا». لكن أحد الصحابة وهو عدي بن حاتم قال: أنا جعلت بجواري خيطا أبيض وخيطاً أسود، وأظل آكل حتى أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فقال له: إنك لعريض القفا (أي قليل الفطنة) فالمراد هنا بياض النهار وسواد الليل.
ويتابع الحق: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد}. لقد كانوا يفهمون أن المباشرة في الليل حسب ما شرع الله لا تفسد الصوم. ولكن كان لابد من وضع آداب للسلوك داخل المسجد أو لآداب سنة الاعتكاف التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان لهذا أوضح الحق أن حلال المباشرة بين الرجل وزوجته هو لغير المعتكف وفي غير ليل رمضان. أما المعتكف في المسجد فذلك الأمر لا يحل له، ومعنى الاعتكاف هو أن تحصر حركتك في زمن ما على وجودك في مكان ما، ولذلك يقولون: (فلان معتكف هذه الأيام) أي حبس حركته في زمن ما في مكان ما، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف مقصور على العشر الأواخر من رمضان فقط، ولكن للمسلم أن يعتكف في بيت الله في أي وقت.
واختلف العلماء في الاعتكاف، بعضهم اشترط أن يكون المرء صائماً حين يعتكف، واشترطوا أيضا أن يكون الاعتكاف لمدة معينة، وأن يكون بالمسجد، وقالوا: إن أردت الاعتكاف، فاحصر حركتك في مكان هو بيت الله.
وكثير من العلماء يقولون: إنك إذا دخلت المسجد تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة، فاجعل لحظاتك لله. ولذلك حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد أي شيئا قد ضاع منه فقال له: «لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا».
لماذا؟ لأن المسجد مكان للعبادة، ولذلك أقول لمن يحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة: أبشر بأنها لن تنفع؛ لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط، إن لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه، وتعيش في حضن عنايته، فلماذا تأتي بالدنيا معك؟ وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول: كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا. وزاد صحابي آخر فقال له: وزد يا أخي أننا نترك أقدارنا مع نعالنا.
انظر إلى الدقة، إن الصحابي المتبع لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد، ولكن يخلع أيضا قدره في الدنيا. فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل، فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قدر إلا قدر إيمانك بالله. وأجلس في المكان الذي تجده خالياً. فلا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد. فأنت تدخل بعبودية لله وقد يأتي مجلسك بجانب من يخدمك، والصغير يقعد بجانب الكبير، ولا تلحظ لك قدراً إلا قدرك عند الله.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث ينتهي به المجلس. أي عندما يجد مكاناً له، وهذا خلاف زماننا حيث يحجز إنساناً مكاناً لإنسان آخر بالسجادة، وقد يدخل إنسان ليتخطى الرقاب، ويجلس في الصف الأول وهو لا يعلم أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد. ومادمنا سنترك أقدارنا فلا تقل أين سأجلس وبجوار مَنْ؟ بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب. وانو الاعتكاف ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا حتى لا تدخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يبارك الله لك في الضالة التي تنشدها وتطلبها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فهل معنى ذلك أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد؟ لا؛ إن الاعتكاف يصح في أي مكان، ولكن الاعتكاف بالمسجد هو الاعتكاف الكامل؛ لأنك تأخذ فيه بالزمان والمكان معاً.
{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ومعنى (الحد) هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء، وحدود الله هي محارمه. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «...ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه».
إذن فالمحارم هي التي يضع الله لها حداً فلا نتعداه.
ولنا أن نلحظ أنه ساعة ينهى الله عن شيء فهو يقول: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} وساعة يأمر بأمر يقول سبحانه: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا}. وفي ذلك رحمة من الله بك أيّها المكلف.
فلا تجعل امرأتك تأتيك وأنت في معتكفك، فقد تكون جميلة، صحيح أنك لا تنوى أن تفعل أي شيء، لكن عليك ألا تقرب أسباب النواهي، ومثال ذلك تحريم الخمر لقد أمر الحق باجتنابها أي ألا تقرب حتى مكان الخمر؛ لأن الاقتراب قد يُزين لك أمر احتسائها، إذن فلكي تمنع نفسك من تلك المحرمات فعليك ألا تقرب النواهي. وفي الأوامر عليك ألا تتعداها.
ويذيل الحق الآية بقوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. والآيات هي العجائب، وكل آية هي شيء عجيب لافت، لذلك نقول: هذه آية في الحسن، وتلك آية في الجمال، وقد تُطلق الآية أيضاً على السمة؛ لأن السمة أو العلامة هي التي تلفتنا إلى الشيء، فيكون ما جاء بالآية داخلا في معنى قوله الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
ولقد أوضحت هذه الآية والآيات السابقة عليها، تشريعات الصيام والاستثناء من التشريع. رفعا للحظر ودفعا للمشقة بعد أن تقع، وكل ذلك ليستوفي التشريع كل مطلوبات الله من المُشَرَّع له. حين يأخذ كل إنسان ذلك البيان الوافي من ربه ويسيطر به على حركة حياته في ضوء منهج الله يكون قد اتقى. والتقوى كما نعلم ليست للنار فقط، لكنها اتقاء لكل مشاكل الحياة؛ فالذي يجعل الحياة مليئة بالمشاكل هو أننا نأخذ بالقوانين التي نسنها لأنفسنا ونعمل بها، ولكن إذا أخذنا تقنين الله لنا فمعنى ذلك أننا نتقي المشاكل. ولذلك يقول الحق: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124].
أي أن حياته تمتلئ بالهموم والمشاكل، لأنه يخالف منهج الله. وإذا لم تنشأ المشاكل مع المخالفات لقال الناس: خالفنا منهج الله وفلحنا، لذلك كان لابد أن توجد المشاكل لتنبهنا أن منهج الله يجب أن يسيطر. وحين يتمسك الناس بمنهج الله، لن تأتي لهم المشاكل بإذن الله.
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في ترتيب الأحكام بعضها على بعض، فالإنسان المخلوق لله في الأرض المسخرة له بكل ما فيها، له حياة يجب أن يحافظ عليها. وتبقى الحياة ببقاء الرزق في الاقتيات من مأكل ومشرب، وكذلك يبقى النوع الإنساني بالتزاوج.. وتكلم الله في رزق الاقتيات، فجعله للناس جميعا عندما قال: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168].
وتكلم سبحانه مخاطباً المؤمنين في شأن هذا الرزق، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وبعد ذلك شاء الله أن يديم على المؤمنين به قضية التكليف فحرَّم عليهم الطعام والشراب والنكاح في أيام رمضان، وهي حلال في غير رمضان، وأحلها الله في ليل رمضان.
وإذا كان قد أرشد أن كل حركة في الحياة هدفها بقاء الحياة، وإذا كان بناء الحياة يتوقف على الطعام؛ وهو أمر ضروري لكل إنسان، وإذا كانت الحياة تمتد وتتوالى باستبقاء النوع، فيبلغ الرجل وينضج ويصير أهلاً للإخصاب، وتبلغ المرأة وتنضج وتصير أهلاً للحمل، فإذا كانت كل المسائل السابقة لازمة للجميع، فلابد من تشريع ينظم كل ذلك.
إن التشريع يسمح لك أن تأكل مما تملك، أو تأكل مما لا مالك له، كنبات الأرض غير المملوكة لأحد، إلا أنك قبل أن تأكل لابد أن تنظر في الطعام لتعرف هل هو مما أحل الله أم لا؟ والتشريع لا يسمح لك أن تأكل من نبات الأرض المملوك لغيرك، ويحرم عليك أن تصطاد حيوانات مملوكة لغيرك، فالتشريع يحترم الجهد الذي تحرك به مالك الأرض ليزرع النبات أو ليُربىَ الحيوان، فلا تقل: إن ذلك النبات في الأرض وأنا آكل منه، أو أن ذلك حيوان موجود أمامي وأنا اصطدته.
إن الحق يضع التشريع لينظم الحركة في المال المملوك للغير بعد أن نظم الحركة في المال غير المملوك والطعام غير المملوك، فإذا سبقك إلى المال غير المملوك أو الطعام غير المملوك إنسان، أو تحرك إنسان بحركة في الوجود فاستنبط مالاً صارت هناك قضية أخرى لا تتعلق بذات المأكول، ولكن بملكية المأكول، فقد بين الله سبحانه: أن كل عمليات اقتياتك في الحياة عملية لا يمكن أن تستقل بها أنت، فلابد من اختلاط حركة الآخرين معك، فأنت لا تأكل إلا مما يكون في أيديهم، وهم لا يأكلون إلا مما يكون في يدك.
فالفلاح مثلاً يبذر البذر، ولكنّه يحتاج إلى الصانع الذي يصنع له الفأس، ويصنع له المحراث، ويصنع له الساقية، والذي يصنع ذلك يحتاج إلى من يعلمه، ويحضر له المواد الخام، إذن فهو سلسلت الأشياء التي توصلك إلى الطعام لوجدت حركات الكون كلها تخدم هذه المسألة. وهكذا نجد أن الآكل من المال المتداول أمر شائع بين البشر، ويريد الله أن يضبطه بنظام فقال سبحانه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل...}.

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
ومادامت أموالي فلماذا لا آكلها؟ إن الأمر هنا للجميع، والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لي، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير.
إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل. وما معنى الباطل، والحق؟ إن الباطل هو الزائل، وهو الذي لا يدوم، وهو الذاهب. والحق هو الثابت الذي لا يتغير فلا تأكل بالباطل، أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحق أثبته الله بحكم: فلا تسرق، ولا تغتصب، ولا تخطف، ولا ترتش، ولا تكن خائناً في الأمانة التي أنت موكل بها، فكل ذلك إن حدث تكن قد أكلت المال بالباطل.
وحين تأكل بالباطل فلن تستطيع أنت شخصياً أن تعفي غيرك مما أبحته لنفسك، وسيأكل غيرك بالباطل أيضاً. ومادمت تأكل بالباطل وغيرك يأكل بالباطل، هنا يصير الناس جميعاً نهباً للناس جميعا. لكن حين يُحكَم الإنسان بقضية الحق فأنت لا تأخذ إلا بالحق، ويجب على الغير ألا يعطيك إلا بالحق، وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغير، لماذا؟ لأن الباطل قد يكون له علو، لكن ليس له استقرار، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
وساعة ترى مطراً ينزل في مسيلٍ ووادٍ، فأنت تجد هذا المطر قد كنس كل القش والقاذورات وجرفها فطفت فوق الماء ولها رغوة، وكذلك فأنت عندما تدخل الحديد في النار تجده يسيل ويخرج منه الخبث، ويطفو الخبث فوق السطح، وهكذا نجد أن طفو الشيء وعلوه على السطح لا يعني أنه حق، إنه سبحانه يعطينا من الأمور المُحسة ما نستطيع أن نميز من خلاله الأمور المعنوية، وهكذا ترى أن الباطل قد يطفو ويعلو إلا أنه لا يدوم، بل ينتهي، والمثل العامي يقول: (يفور ويغور).
إن الله يريد أن تكون حركة حياتنا نظيفة شريفة، حركة كريمة فلا يدخل في بطنك إلا ما عرقت من أجله، ويأخذ كل إنسان حقه. وقبل أن يفكر الإنسان في أن يأكل عليه أن يتحرك ليأكل، لا أن ينتظر ثمرة حركة الآخرين، لماذا؟ لأن هذا الكسل يشيع الفوضى في الحياة. وحين نرى إنساناً لا يعمل ويعيش في راحة ويأكل من عمل غيره فإن هذا الإنسان يصبح مثلاً يحتذي به الآخرون فيقنع الناس جميعاً بالسكون عن الحركة ويعيشون عالة على الآخرين.
ويترتب على ذلك توقف حركة الحياة، وهذا باطل زائل، وبه تنتهي ثمار حركة المتحرك، وهنا يجوع الكل.
إن الحق يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع حاجته من طعام وشراب ومأوى، وبذلك تستمر دورة الحياة. إنه سبحانه يريد أن يضمن لنا شرف الحركة في الحياة بمعنى أن تكون لك حركة في كل شيء تنتفع به؛ لأن حركتك لن يقتصر نفعها عليك، ولكنها سلسلة متدافعة من الحركات المختلفة، وحين تشيع أنت شرف الحركة فالكل سيتحرك نحو هذا الشرف، لكن الباطل يتحقق بعكس ذلك، فأنت حين تأكل من حركة الآخرين تشيع الفوضى في الكون.
وعلى هذا فالحركة الحلال لا يكفي فيها أن تتحرك فقط، ولكن يجب أن تنظر إلى شرف الحركة بألا تكون في الباطل، لأن الذي يسرق إنما يتحرك في سرقته، ولكن حركته في غير شرف وهي حركة حرام. إذن كل مسروق في الوجود نتيجة حركة باطلة، وكذلك الغصب، والتدليس، والغش، وعدم الأمانة في العمل، والخيانة في الوديعة، وإنكار الأمانة، كل ذلك باطل، وكل حركة في غير ما شرع الله باطل، حتى المعونة على حركة في غير ما شرع الله، كل ذلك باطل.
ويقول لنا الحق سبحانه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرروا لكم أن هذا الباطل هو حق لكم. فهناك أناس كثيرون يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله، وهذا أمر خاطئ؛ لأن كل إنسان مسئول عن حركته.
لا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتُلقى عليه تبعة أفعالك؛ ومثال ذلك تلك الأشياء التي نقول عليها إنّها فنون جميلة من رقص وغناء وخلاعة، هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها هل ذلك يجعلها حلالاً؟ لا؛ لأن هناك فرقاً بين الديانة المدنية والديانة الربانية. ولذلك تجد أن الفساد إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك.
إن الذين يشتغلون بعمل لا يقره الله فهم يأكلون أموالهم بالباطل، ويُدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلاً، وعلى الذين يأكلون من مثل هذه الأشياء أن ينتبهوا جيداً إلى أن الذي يعولهم، إنما أدخل عليهم أشياء من هذا الحرام والباطل، وعليهم أن يذكروا ربهم وأن يقولوا: لا لن نأكل من هذا المصدر؛ لأنه مصدر حرام وباطل، ونحن قد خلقنا الله وهو سبحانه متكفل برزقنا.
وأنا اسمع كثيراً ممن يقولون: إن هذه الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة، ترتبت الحياة عليها ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها. وأقول لهم: لا، إن عليكم أن ترتبوا حياتكم من جديد على عمل حلال، وإذا أصر واحد على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته، فعلى المُعال أن يقف منه موقفا يرده، ويصر على ألا يأكل من باطل.
وتصوروا ماذا يحدث عندما يرفض ابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص مثلا أو تغني، أو عمل والده إذا علم أنه يعمل بالباطل؟ المسألة ستكون قاسية على الأب أو الأم نفسيهما.
إن الذين يقولون: إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه، أقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه، إنما يرزقه الله بسبب هذا العمل: فإن انتقل من عمل باطل إلى عمل آخر حلال فلن يضن الله عليه بعمل حق ورزق حلال ليقتات منه.
وقد عالج الحق سبحانه وتعالى هذه القضية حينما أراد أن يحرم بيت الله في مكة على المشركين، لقد كان هناك أناس يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج، وكان أهل مكة يبيعون في هذا الموسم الاقتصادي كل شيء للمشركين الذين يأتون للبيت، وحين يُحَرِّم الله على المشرك أن يذهب إلى البيت الحرام فماذا يكون موقف هؤلاء؟ إن أول ما يخطر على البال هو الظن القائل: (من أين يعيشون)؟ ولنتأمل القضية التي يريد الله أن ترسخ في نفس كل مؤمن. قال الحق: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28].
ثم يأتي للقضية التي تشغل بال الناس فيقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} [التوبة: 28].
وهكذا نرى أن هذه القضية لم تخف على الله فلا يقولن أحدٌ إن العمل الباطل الحرام هو مصدر رزقي، ولن أستطيع العيش لو تركته سواء كان تلحيناً أو عزفاً أو تأليفاً للأغاني الخليعة، أو الرقص، أو نحت التماثيل. نقول له: لا، لا تجعل هذا مصدراً لرزقك والله يقول لك: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وأنت عندما تتقي الله، فهو سبحانه يجعل لك مخرجاً. {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}، وعليك أن تترك كل عمل فيه معصية لله وانظر إلى يد الله الممدودة لك بخيره.
إذن فقول الله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} تنبيه للناس ألا يُدخلوا في بطونهم وبطون من يعولون إلا مالاً من حق، ومالاً بحركة شريفة؛ نظيفة، وليكن سند المؤمن دائماً قول الحق: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
ولنا أن نعرف أن مَنْ أكل بباطل جاع بحق، أي أن الله يبتليه بمرض يجعله لا يأكل من الحلال الطيب، فتجد إنساناً يمتلك أموالاً ويستطيع أن يأكل من كل ما في الكون من مطعم ومشرب، ولكن الأطباء يحرمون عليه الأكل من أطعمة متعددة لأن أكلها وبال وخطر على صحته، وتكون النعمة أمامه وملك يديه، ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها بحق.
وفي الوقت نفسه يتمتع بالنعمة أولاده وخدمه وحاشيته وكل مَنْ يعولهم، مثل هذا الإنسان نقول له: لابد أنك أخذت شيئاً بالباطل فحرمك الله من الحق.
ومن هنا نقول: (مَنْ أكل بباطل جاع بحق). وكذلك نقول: (مَنْ استغل وسيلة في باطل أراه الله قبحها بحق)، فالذي ظلم الناس بقوته وبعضلاته المفتولة لابد أن يأتي عليه يوم يصبح ضعيفاً.
والمرأة التي تهز وسطها برشاقة لابد أن يأتي عليها يوم يتيبس وسطها فلا تصبح قادرة على الحركة، والتي تخايل الناس بجمال عيونها في اليمين والشمال لابد أن يأتيها يوم وتعمى فلا ترى أحدا، وينفر الناس من دمامتها.
إن كل مَنْ أكل بباطل سيجوع بحق، وكل مَنْ استغل وسيلة بباطل أراه الله قبحها بحق، واكتب قائمة أمامك لمَنْ تعرفهم، واستعرض حياة كل مَنْ استغل شيئاً مما خلقه الله في إشاعة انحراف ما أو جعله وسيلة لباطل لابد أن يُريه الله باطلاً فيه.
وأنا أريد الناس أن يعملوا قائمة لكل المنحرفين عن منهج الله، ويتأملوا مسيرة حياتهم، وكل منا يعرف جيرانه وزملاءه من أين يأكلون؟ ومن أين يكتسبون؟ ليتأمل حياتهم ويعرف أعمال الحلال والحرام ويجعل حياتهم عبرة له ولأولاده، كيف كانوا؟ وإلي أي شيء أصبحوا؟ ثم ينظر خواتيم هؤلاء كيف وصلت.
ومن حبنا لهؤلاء الناس نقول لهم: تداركوا أمر أنفسكم فلن تخدعوا الله في أنكم تجمعون المال الحرام، وبعد ذلك تخرجون منه الصدقات، إن الله لن يقبل منكم عملكم هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.
ونحن نسمع عن كثير من المنحرفين في الحياة يذهبون للحج، ويقيمون مساجد ويتصدقون، وكل ذلك بأموال مصدرها حرام، ولهؤلاء نقول: إن الله غني عن عبادتكم، وعن صدقاتكم الحرام، وننصحهم بأن الله لا ينتظر منكم بناء بيوت له من حرام أو التصدق على عباده من مال مكتسب بغير حلال، لكنه سبحانه يريد منكم استقامة على المنهج.
وحين نتأمل الآية نجد فيها عجباً، يقول الله عز وجل: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} لقد ذكر الحق الحكام في الآية؛ لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي مشروعية للمال ولو كان باطلاً، وقوله سبحانه: {تُدْلُواْ} مأخوذة من (أدلى)، ونحن ندلي الدلو لرفع الماء من البئر و(دلاه): أي أخرج الدلو، أما (أدلى): فمعناها (أنزل الدلو). ولذلك في قصة الشيطان الذي يغوي الإنسان قال الحق: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22].
{وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل، ومن العجيب أن هذا النص بعينه هو نص الرشوة.
والرشوة مأخوذة من الرِّشاء، والرِّشاء هو الحبل الذي يعلق فيه الدَّلو، فأدلى ودَلاَ في الرشوة. ولماذا يدلون بها إلى الحكام؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر، لكن حينما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبيح مثل هذا الفعل.
ولذلك وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ فقال: (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها). إن الذين يقول ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم، إنه يحذر من أن يحاول أحد أن يبالغ في قوة الحجة ليأخذ بها حقاً ليس له.
إذن فحين يُقنن الفساد فذلك نتيجة أن الحاكم يقر ذلك، ويأخذ الإنسان الحاكم كأمر نهائي، مثال ذلك: بعض من الحكام لم يحرموا الربا، ويتعامل به الناس بدعوى الحكومات تحلله، فلا حرج عليهم. ومثل هذا الفهم غير صحيح؛ لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله، وإن حللت ذلك فعلى المؤمن أن يحتاط وأن يعرف أنه والحكام محكومون بقانون إلهي، وإن لم تقنن الحكومات الحلال من أجل سلطتها الزمنية فعلى المؤمن ألا يخرج عن تعاليم دينه.
وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون، في أي مظهر من مظاهر الفساد فسنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل، ولذلك لم يترك الحق سبحانه وتعالى تلك المسائل غائبة، وإنما جعلها من الأشياء المشاهدة. وأنت إن أردت أن تعرف خلق أي عصر، واستقامته الدينية وأمانته في تصريف الحركة فانظر إلى المعمار في أي عصر من العصور، انظر إلى المباني ومن خلالها تستطيع أن تُقَيم أخلاق العصر. إنك إن نظرت إلى عملية البناء الآن تجد فيها استغلال المال، وعدم أمانة المنفذ، وخيانة العامل، وكل هذه الجوانب تراها في المعمار. لننظر مثلا إلى مجمع التحرير ولنسترجع تاريخ بنائه، ولنقرنه بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي وما بني في عهدهما.
ولننظر إلى المباني والإنشاءات التي نسمع عنها وتنهار فوق سكانها ولنقارنها بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي، سنجد أن المباني القديمة قامت على الذمة والأمانة، أما المباني التي تنهار على سكانها في زماننا أو تعاني من تلف وصلات الصرف الصحي فيها، تلك المباني قامت على غش الممول الشره الطامع، والمهندس المدلس الذي صمم أو أشرف على البناء أو الذي تسلم المبنى وأقر صلاحيته، ومروراً بالعامل الخائن، وتكون النتيجة ضحايا أبرياء لا ذنب لهم، ينهار عليهم المبنى ويخرجون جثثا من تحت الأنقاض، إن كل ذلك سببه أكل المال بالباطل. ولقد نظر الشاعر أحمد شوقي في هذه المسألة، وجعل الأخلاق والدين من المبادئ فقال:
وليس بعامر بنيان قوم *** إذا أخلاقهم كانت خرابا
وأنا أقترح على الدولة أن تعد سجلا محفوظا لكل عمارة يتم بناؤها، ويُحفظ في هذا السجل اسم ممولها، والمهندس الذي أشرف على بنائها، وكذلك أسماء عمال البناء، وعمال التشطيب، والأعمال الصحية والكهربائية وكافة العمال الذين شاركوا في بنائها. ويُحفظ كل ذلك في ملف خاص بالعمارة، وعندما يحدث أي شيء يأتون بهؤلاء، كل في تخصصه ويحاسبونهم على ما قصروا فيه من عمل، وإلا فإن أرواح الناس ستذهب سدي؛ فكل إنسان منا له فرصة في هذه الحياة وعليه ألا يطغى على نصيب غيره.
وهب أننا نأخذ سلعة (بطابور) حتى لا يتقدم أحد على دور الآخر، وقد جاء الأول في (الطابور) من الساعة السابعة صباحاً وأخذ دوره، وجاء آخر متأخرا بعد أن نام واستراح ثم قضى جميع مصالحه وذهب للجمعية ووجد الصف طويلا، فنظر حوله إلى شخص يتخطى هذا (الطابور)؛ وأعطاه مبلغا من المال سهل له قضاء حاجته، مثل هذا الإنسان تعدى على حقوق كل الواقفين في (الطابور).
وقد يقول: أنا أخذت مثلما يأخذون، نقول له: لا؛ لقد أخذت زمن غيرك ولا يصح أن تأتي آخر الناس وتأخذ حق الشخص الذي وقف في (الطابور) من السابعة صباحا. إن حقك مرتبط بزمنك، فلا تعتد على وقت الآخرين الذين هم أضعف منك قدرة أو مالاً. إن الحق يقول: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. والفريق هو الجماعة المعزولة من جماعة أكثر عددا، فإذا ما انفصلت جماعة صغيرة عن أناس بهذه الجماعة تُسمى فريقاً.
والإثم الأصيل فيه ولو لم يكن هناك دين أن تفعل ما تُعاب عليه وتُذم، وكذلك تُعاب عليه وتُذم من ناحية الدين، وفوق ذلك تعاقب في الآخرة. وما هو مقياس الحق والباطل؟ إن المقياس الذي ينجيك من الباطل هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية صفقة أو معاملة؛ لأنك لا ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعاً لك.
ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية يعالج فيها أمراً واجه الدعوة الإسلامية، والدعوة الإسلامية إنما جاءت لتخلع المؤمنين بالله من واقع في الحياة كان كله أو أغلبه باطلاً، ولكنهم اعتادوه وألفوه أو استفاد أناس من ذلك الباطل، ذلك أن الباطل لا يستمر إلا إذا كان هناك مَنْ يستفيدون منه. وجاء الإسلام ليخلص الناس من هذه الأشياء الباطلة. فالحق لم يشأ أن يعلمنا أن كل أحوال الناس غارقة في الشرور، بل كانت هناك أمور أقرها الإسلام كما هي، فالإسلام لم يغير لمجرد التغيير، ولكنه واجه الأمور الضارة بالحياة التي لا يستفيد منها إلا أهل الباطل.
مثال ذلك كان العرف السائد في الدية أنها مائة من الإبل يدفعها أهل القاتل، وقد أبقاها الإسلام كما هي. وحينما استقبل المسلمون الإيمان بالله، فهم قد استقبلوا أحكامه وأرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي جديد طاهر، حتى الشيء الذي كانوا يعملونه في الجاهلية كانوا يسألون عن حكمه؛ لأنهم لا يريدون أن يصنعوه على عادة ما كان يصنع، بل على نية القربى إلى الله بالامتثال، إذن فهم عشقوا التكليف، وعلموا أن الله لم يكلفهم إلا بالنافع، وعندما نقرأ {يَسْأَلُونَكَ} في القرآن فاعلم أنها من هذا النوع، مثل ذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219].
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222].
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220].
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 215].
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين..} [الكهف: 83].
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1].
إذن فكل سؤال معناه أنهم أرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي، حتى الشيء الذي لم يغيره الإسلام أرادوا أن يعرفوه ويصنعوه على أنه حكم الإسلام لا على حكم العادة.
والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية. وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتاً دينياً آخر، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير، أما القمر الذي يطلع في الليل فهو الذي يتغير، إنه يبدأ في أول الشهر صغيراً ثم يكبر حتى يصبح بدراً، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن بعضاً من اليهود أرادوا إحراج المسلمين فقالوا لهم: (اسألوا رسولكم عن الهلال كيف يبدأ صغيراً ثم يكبر حتى يصير بدراً ثم يعود لدورته مرة أخرى حتى يغرب ليلتين لا نراه فيهما)، وهذا السؤال سجله القرآن في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا...}.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}

الأهلة جمع هلال، وسمى هلالاً لأن الإنسان ساعة يراه يهل، أي يرفع صوته بالتهليل، ويجيب الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر، وهو الكوكب الذي خضع لنشاطات العقل حتى يكتشفه، والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك القمر، ولكنهم كانوا يؤرخون به، وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به. ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي يتأملون به آيات الله في الكون، فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك، فنعرف السبب، وقد لا ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة.
وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام، وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من الآيات الكونية مثل القمر، لا يكفي ظهوره واختفاؤه، وتغير حجمه، لأن هذه لن يتسع لها العقل، بل نستفيد منه كميقات، ونستخدمه لقياس الزمن. فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين، لم يعرف العلماء سبباً لظواهر القمر، فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرناً؟
قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلاً: إن الشمس مثل حجم الأرض مليونا وربع مليون مرة، والقمر أصغر من الأرض، وعندما تأتي الأرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس الهائل فإن الأرض تحجب جزءاً من القمر، هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب من الأرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلماً.
إن القمر وجوده ثابت لكن الأرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء الشمس، ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الأرض بعيداً عنه. وعندما تنزاح الأرض بعيداً عنه كلية يظهر في السماء بدراً كاملاً، ثم تعود الأرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءاً من الشمس، ويزداد ذلك يوماً بعد يوم، فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعاً لذلك، فيقل تدريجياً حتى تأتي الأرض بينه وبين الشمس فلا يظهر منه شيء.
ونقول نحن: إننا عندما لا نرى القمر لا في الليل ولا في النهار برغم أنه موجود في مكانه، نقول: إنه مستور في ظل الأرض، لذلك لا نراه. وهذه الظاهرة لا تحدث للشمس لأن جرم الشمس كبير جداً. وعندما يحدث فإن الأثر يكون قليلا، ويسمى بالكسوف.
وعندما التفت العرب للكون قالوا: ما بال الهلال يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدراً، فقال الحق عز وجل: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} إنهم هم يسألون عن الأهلة ودورتها، فقطع الله عليهم خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلاصة والنتيجة، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}. إن هذا الأمر هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه، أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن عنه، وجهلكم به لا يقلل من نفعكم.
لقد كانت كل إجابة لأي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لإدراكه ساعة التشريع، أما بقية الإجابة فالحق يتركها للزمن.
ولا يعطينا إلا ما يفيد التشريع، مثال ذلك: كانوا قديما يقولون: الأرض كرة وأثبت لنا العلم أنها كذلك، ورأيناها بالأقمار الصناعية وانتهت القضية.
وعندما سأل العرب عن الأهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت، والمواقيت جمع ميقات، والميقات من الوقت، والوقت هو الزمن، ونعرف أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان. إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا وجد حدث.
والذي يقول: كيف كان الزمن قبل أن يخلق الله الخلق؟. نقول له: الزمن وُجد للحادث وهو المخلوقات والله قديم، وما دام الله قديما وليس حادثا فلا زمان ولا مكان، لا تقل متى ولا أين؛ لأن متى وأين مخلوقة. وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن، لمقدار من الحركة ولمقدار من الفعل.
وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحياناً في المكان، فيقول الزمان هو الأصل، والمكان طارئ عليه، ومرة أخرى يكون المكان هو الأصل، والزمان هو الطارئ عليه، ومرة ثالثة يتلازم الاثنان الزمان والمكان.
ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الإحرام عند رابغ، ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي هي المكان الذي لا يتجاوزه من مر عليه إلا وهو محرم.
إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ، ومن فور وصول الإنسان المصري إلى رابغ بغية الحج يحرم، سواء كان الوقت صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً.
ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل في صومك في أي مكان تذهب إليه، إن الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم: في طنطا أو لندن أو في طوكيو، وهكذا نعرف كيف يكون الزمن ميقاتاً.
إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه، ومرة يكون المكان هو الذي يتحكم في الميقات، والزمن طارئ عليه، ومرة يتحكم الزمان والمكان معاً في الفعل مثل يوم عرفة.
وهكذا نعرف معنى {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}، فنحن بالهلال نعرف بدء شهر رمضان، ونعرف به عيد الفطر، وكذلك موسم الحج وعدة المرأة، والأشهر الحرم، إن كل هذه الأمور إنما نعرفها بالمواقيت. وشاء الحق أن يجعل الهلال هو أسلوب تعريفنا تلك الأمور وجعل الشمس لتدلنا على اليوم فقط، وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو، والزراعة، ولذلك قال: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5].
وانظر إلى الدقة في الأداء وكيف يشرح الحق للإنسان ماهية النور، وماهية الضوء. إن الشمس مضيئة بذاتها، أما القمر فهو منير؛ لأن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللامعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نوراً.
إن القمر منير بضوء غيره، ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61].
والسراج في هذه الآية هو الشمس التي فيها حرارة، وجعلها الحق ذات بروج، أما القمر فله منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5].
إذن، فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من الحساب بالشمس؛ فالحساب بالشمس يختل يوماً كل عدد من السنين.
ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس. إن البروج هي أسماء من اللغة السريانية، وهو: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعذراء، والأسد، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وعددها اثنا عشر برجا هذه هي أبراج الشمس، ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو، ويحب أن نفهم أن لله في البروج أسراراً، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعلها قسماً حين يقول: {والسمآء ذَاتِ البروج}.
ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس لا يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد، والتي تأتي في الحر هي هي، وكذلك التي تأتي في الخريف، والربيع، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية أحد عشر يوما، والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور العربية ونعرف بداية كل شهر بالهلال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة: 36].
ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة، فلا تصوم رمضان في صيف دائم، ولا في شتاء دائم، ولكن يُقَلِّبُ الله مواعيد العبادات على سائر أيام السنة، والذين يعيشون في المناطق الباردة مثلاً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة، ولكن يدور موسم الحج في سائر الشهور فعندما يأتي الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب من مناخ بلادهم.
وهكذا نجد أن حكمة الله اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بلا مشقة. إذن فالمنازل شائعة في البروج، وهذا سبب قول بعض العلماء: إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة، وذلك حسب سياحة المنازل في البروج.
إذن فهناك بروج للشمس، ومنازل للقمر، ومواقع للنجوم، ومواقع النجوم التي يقسم بها الله سبحانه في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76].
ولعل وقتا يأتي يكشف الله فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه.
إذن كل شيء في الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع. وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج. وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم، وبنو صعصاع بن عامر. وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج. ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه في زوجه أو أهله. وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع.
والملاحظ أن كلمة (البر) في هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من الإعراب هو (اسم ليس) وهي تختلف عن كلمة (البر) التي جاءت من قبل في قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو (خبر مقدم لليس). حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف في الرفع والنصب على القرآن الكريم. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا نفعل لكم؟. يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: (زيد مجتهد)، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول: (المجتهد زيد).
إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف. وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة (البر) في كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة في القرآن ترتيباً ومعنى، فلا تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التي لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم.
ثم ما هو (البر)؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله لنا تحديد (البر) لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا؛ فأنت ترى هذا (حسناً)؛ وذاك يرى شيئا آخر، وثالث يرى عكس ما تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع، ولذلك يقول الحق: {ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا}.
إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. لا تزال كلمة التقوى هي الشائعة في هذه السورة، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى.
ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله. وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124].
ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات في غيره.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم، إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأي وسيلة. ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة: {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} [البقرة: 246].
علة القتال إذن أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم.
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله، فلا إكراه في الإيمان بالله. وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً في أن تقبل التكليف.
ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم: إن حججهم ساقطة واهية، وكذلك قولهم: إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال، نقول لهؤلاء: جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن، ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن، لو كان الإسلام يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية.
إذن فالإسلام لم يُكرهه، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحد على ترك دينه، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم. وكأن الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه؛ فسهامهم قد ارتدت إليهم.
وهنا تساؤل قد يثور: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول: إن حروب الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أن يختاروا الدين المناسب. ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أن الإنسان مادام على حريته في أن يختار فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام. ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..} [البقرة: 256].
لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله سبحانه من الآية نفسها {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}. إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب، لكن لا تستطيع أن تُكره القلب. ونحن نريد أن ينبع الإيمان من القلب، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
إن الله لا يريد أعناقاً، لو كان يريد أعناقاً لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره سبحانه من يُريد الله أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره. إن الحق يريد إيمان قلوب لا رضوخ قوالب. فالذي يجبر الآخرين على الإيمان بالكرباج لن يتبعه أحد، وهو نفسه غير مؤمن بما يفرضه على الناس. ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلاح حياتهم.
ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعاً، فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الأفكار. والقرآن هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال، الأمر الذي اختص به الحق أمة الإسلام. وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلال فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً، ثم أذن به بعد الهجرة إلى المدينة.
وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة، ويروا فيهم أسوة حسنة، لذلك قال الحق: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].
وقال سبحانه أيضاً: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48].
لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت العربية، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله، ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار في كل بيت معركة.
ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا
والثاني يقول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
أي أنهم لا يسألون أخاهم: (لماذا نحارب؟)، وإنما يحاربون بلا سبب ولأي سبب، فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب. وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق، فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة، ويأخذون على يد الظالم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين، وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا: (كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب محصورون في الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون).
لقد كانوا كفاراً، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا: هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك. وكانوا خمسة من سادات مكة هم: هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية، وأبو البحتري بن هاشم، وزمعة ابن الأسود، والمطعم بن عدي. وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين. هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق.
ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً، لذلك أخذهم برفق الهَوَادة. والذين يقولون: لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر في مكة؟
نقول لهم: إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة الإسلامية هم الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك، ومثال ذلك خالد بن الوليد، الذي كان قائداً مغواراً في صفوف المشركين، وقاتل المسلمين في أول حياته، ثم هداه الله للإسلام وأصبح سيف الله المسلول، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته، تلك الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق.
إذن شاءت حكمة الله أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للإسلام في بدء الدعوة لأن الله قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام. والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق.
انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة، ثم أسلم وأبلى بلاء حسناً، ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد بن الوليد وقال: أهذه ميتة تُرضى عني رسول الله؟. كأنه كان يعلم أن رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم.
وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لولاه ما فُتحت مصر. فقد كسب بدهائه أهل مصر فامتنعوا عن قتاله، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين، وأبان لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موصياتهم (استوصوا بالقبطيين خير لأن لهم رحما وذمة) وفوق هذا فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض العرب يستقرهم إلى الإسلام.
إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد، وكل إنسان استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين الخاتم.
ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في الإسلام، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين، ومشاقه لأنه سيكون مأموناً على مجد أمة، وعلى منهج سماء، وتلك أمور لا يصلح لها أي واحد من الناس.
وقد كان من الممكن أن ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين، وكان معنى ذلك أن الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم، ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين. لذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج؛ لقد جاء الأمر بالقتال في أول مرحلة بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا.

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام، وأرادوا أن يعتمروا، فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة. وأرادوا أن يؤدوا العمرة. فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية، ووقفت أمامهم قريش وقالت: لا يمكن أن يدخل محمدٌ وأصحابه مكة.
وقامت مفاوضات بين الطرفين، ورضي رسول الله بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في العام القادم، وتُخلى لهم مكة ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين ومقصرين، وشاع ذلك الخبر، وفرح به المسلمون وسعدوا، ثم فوجئوا بمفاوضات رسول الله ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو متراً من مكة وحزن الصحابة. حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست رسول الله؟ ألست على الحق؟ فرد عليه سيدنا أبو بكر قائلا: الزم غرزك يا عمر إنه لرسول الله.
وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وهو موقف يعبر عن الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة. فحينما دخل عليها رسول الله وقال لها: هلك المسلمون يا أم سلمة، أمرتهم فلم يمتثلوا.
فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموماً، هنا تتجلى وظيفتها في السكن، قالت أم سلمة: اعذرهم يا رسول الله؛ إنهم مكروبون. كانت نفوسهم مشتاقة لأن يدخلوا بيت الله الحرام محلقين ومقصرين، ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها، اعمد إلى ما أمرك الله فافعله ولا تُكلم أحداً، فإن رأوك فعلت، علموا أن ذلك عزيمة.
وأخذ رسول الله بنصيحة أم سلمة، وصنع ما أمره به الله، وتبعه كل المسلمين، وانتهت المسألة. وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ الله أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى لا يظل الشرخ في نفوس المؤمنين، وتلك عملية نفسية شاقة، لذلك لم يُطل الله عليهم السبب، وجاء بالعلة قائلا لهم: ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم مندسون بين الكفار، فلو أنكم دخلتم، وقاتلوكم، ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين، فتقتلون إخوانا لكم، فلو كان هؤلاء الإخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لأذنت لكم بقتال المشركين؛ كما تريدون. واقرأ قول الله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25].
بعد نزول الآية عرف المسلمون أن الامتناع كان لعلة ولحكمة، فلما جاءوا في العام التالي قال الله لهم: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وكان الحق يطمئنهم، فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي القعدة من العام القادم. وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم، ونزل قول الحق: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190].
وعندما نتأمل قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة {فِي سَبِيلِ الله} لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت البشر، ولابد أن تكون نية القتال في سبيل الله لا أن يكون القتال بنية الاستعلاء والجبروت والطغيان فلا قتال من أجل الحياة، أو المال أو لضمان سوق اقتصادي، وإنما القتال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، هذا هو غرض القتال في الإسلام.
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} والحق ينهى عن الاعتداء، أي لا يقاتل مسلم من لم يقاتله ولا يعتدي.
وهب أن قريشا هي التي قاتلت، ولكن أناساً كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع أنهم في جانب من قاتل، لذلك لا يجوز قتالهم، نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل. ماذا؟ لأن في قتال النساء والعجزة اعتداء، وهو سبحانه لا يحب المعتدين. لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد العدوان، ولا بداية عدوان.
ويقول الحق من بعد ذلك: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل...}.

تعليقات

التنقل السريع