القائمة الرئيسية

الصفحات

الورد اليومي - صفحة ٦٧ من القران الكريم - وتفسيرها للشيخ الشعراوي | مدونة خواطر لتغير حياتك

صفحة ٦٧ من القران وتفسيرها للشيخ الشعراوي :- 

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}
والسرعة- كما عرفنا- مقابلها العجلة، إن السرعة هي: التقدم فيما ينبغي، ومعنى أن تتقدم فيما ينبغي: أنك تجعل الحدث يأخذ زمناً أقل، والمثال على ذلك عندما يسرع الإنسان بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل، فبدلاً من أن تأخذ منه ثلاث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين. إذن فالسرعة هي: التقدم فيما ينبغي، وهي محمودة، وضدها: الإبطاء. فالسرعة محمودة، والإبطاء مذموم.
لكن (العجلة) تقدم فيما لا ينبغي، وهي مذمومة، مقابلها (التأني)، والتأني ممدوح، إذن فالسرعة محمودة، ومقابلها الإبطاء مذموم، والعجلة مذمومة، ومقابلها التأنّي ممدوح، والمثل الشعبي يقول: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
إن الحق يقول: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا. فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة، هذا هو المعنى الذي يأتي فيه الأثر الشائع (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
الناس تفهمها فهماً يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً: يعني اجمع الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة، وليس هذا فهماً صحيحاً لكن الصحيح هو أن ما فاتك من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلاً وتأخذه غداً، أمَّا أمر الآخرة فعليك أن تعجل به.
{وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ونحن نعرف أن المساحات لها طولّ وعرض، لأن الذي طوله كعرضه يكون مربعاً، إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن نسميه (مستطيلا)، وحين يقول الحق {عَرْضُهَا السماوات والأرض} نعرف أن العرض هو أقل البعدين، أي أنها أوسع مما نراه، فكأنه شبّه البعد الأقل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو السموات والأرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع مَمَّا نراه. فإذا كان عرضها أوسع ممَّا نعرف فما طولها؟ أنه حد لا نعرفه نحن.
قد يقول قائل لماذا بيَّن عرضها فقال: {عَرْضُهَا السماوات والأرض}. فأين طولها إذن؟ ونقول: وهل السموات والأرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255].
ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما السموات والأرض وما بينهما إلا كحلقة ألقاها ملك في فلاة». أليست هذه من ملك الله؟
وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين، ومعنى (أُعدت) أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة! يؤكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت».
لماذا؟ لأن الإخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك، ولكن الوجود للحدث ينفي أن لا يوجد؛ لأن وجوده صار واقعا، فعندما يقول: (أُعدت) فمعناها أمر قد انتهى الحق من إعداده، ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة، لا.
لقد أخبر سبحانه عنها فقال: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وأعد سبحانه الجنة كلها ب (كن)، فعندما يقول: (أُعدت) تكون مسألة مفروغاً منها. وما دامت مسألة مفروغاً منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه، والجنة أُعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
هذه بعض من صفات المتقين {والكاظمين الغيظ} لأن المعركة- معركة أُحد- ستعطينا هذه الصورة أيضاً. فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل. وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته (هند)، وهذا أمر أكثر من القتل. وهذه معناها ضغن دنيء.
وحينما جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مقتل حمزة وقالوا له: إن (هنداً) أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها، إذ جعلها الله عَصِيَّة عليها، قال: (ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار) كأنها ستذهب إلى النار، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار، فلابد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء.
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي. إنها مقتل حمزة فقال: (لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم).
وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه، وينزل قول الحق: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
كي نعرف أن ربنا- جل جلاله- لا ينفعل لأحد؛ لأن الانفعال من الأغيار، وهذا رسوله فأنزل سبحانه عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث (أٌحد). وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب. وتكون مع الناس دون رسول الله؛ لأنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{والكاظمين الغيظ} ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات. وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة، والقِرَب- كما نعرف- كان يحملها (السقا) في الماضي، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب، وهي من جلد مدبوغ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها، ويقال عن هذا الفعل: (كظم القربة) أي ملأها وربطها، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء.
كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية، إنه يهيجها، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني.
إنما هو يريدها لأشياء مثلا: الغريزة الجنسية، هو يريدها لبقاء النوع، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط، وكذلك انفعال الغيظ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له، لا، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً، لكن الانفعال المناسب للحدث، الانفعال السامي الانفعال المثمر، ولا يأتي بالانفعال المدمر.
لذلك يقول الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29].
فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة، ولا على الرحمة، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان، فالحق سبحانه يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54].
وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً؟ نقول: المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر. إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث.
ومثال آخر: ألم ينفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى وحزن. إن الله لا يريد المؤمن من حجر. بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه: (إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب. بل انفعال موجّه، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله، ولكن على المؤمن أن يكظمه.. أي لا يجعل الانفعال غالبا على حسن السلوك والتدبير. والكظم- كما قلنا- مأخوذ من أمر محس. مثال ذلك: نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان، واحدة يُختزن فيها الطعام، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً، إنه يجتر.
ومعنى: يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه، هذا هو الاجترار. فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال: إن الجمل قد كظم. والحق سبحانه يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس}.
وقلنا: إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته، فقد يبقى في النفس وتكظمه، ومعنى كظم الانفعال: أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال. أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك، وكأن الأمر لم يحدث، وهذه هي مرتبة ثانية. أما المرتبة الثالثة فهي: أن تنفعل انفعالاً مقابلاً؛ أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك. إذن فهناك ثلاث مراحل: الأولى: كظم الغيظ. والثانية: العفو. والثالثة: أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه.
وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين؛ لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد.
لكن إذا ما كظمت الغيظ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة.
{والعافين عَنِ الناس} مأخوذة من (عفّى على الأثر) والأثر ما يتركه سير الناس في الصحراء مثلا، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر. ويقول الحق في تذييل الآية: {والله يُحِبُّ المحسنين}.
وقلنا في فلسفة ذلك: إننا جميعاً صنعة الله، والخلق كلهم عيال الله. وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة. وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب. أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟.
لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا. لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء. هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة.
ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله...}.

{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}
والفاحشة هي: الذنب الفظيع. فهل معنى ذلك أن الرماة في غزوة أحد حين تركوا مواقعهم، قد خرجوا من الإيمان؟ لا، إنها زلة فقط، لكنها اعتبرت كبيرة من الكبائر لمن أشار على المؤمنين أن ينزلوا، واعتبرت صغيرة لمن حُرّض- بالبناء للمفعول- على أن ينزل من موقعه.
إذن فهو قول مناسب: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} وجاء الحق هنا ب (ذكروا الله) كتنبيه لنا إلى أن من يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه هو من نسي الله، فلحظة فعل الفاحشة أو ظلم النفس لا يكون الله على بال الإنسان الفاعل للفاحشة أو على بال من ظلم نفسه، والذي يُجرِّئ الإنسان على المعصية ليحقق لنفسه شهوة، أنَّه لم ير الله ولم ير جزاءه وعقابه في الآخرة ماثلا أمامه، ولو تصور هذا لا متنع عن الفاحشة.
وكذلك الذي يهمل في الطاعة أيضاً، لم يذكر الله وعطاءه للمتقين. ولو ذكر الله وعطاءه للمتقين لما تكاسل عن طاعة الله. ولذلك يقول الحق: {ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} فمن يستغفر لذنبه فقد ذكر الله.
وموقف العلماء من الفاحشة فيه اختلاف. بعض العلماء قال: إنها الكبيرة من الكبائر، وظلم النفس صغيرة من الصغائر. وقال بعض آخر من العلماء: إن الفاحشة هي الزنا؛ لأن القرآن نص عليها، وما دون ذلك هو الصغيرة.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا كبيرة مع الاستغفار. ولا صغيرة مع الإصرار».
فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول: هذه صغيرة وتلك صغيرة لأن الصغيرة مع الصغيرة تصير كبيرة. وحين ننظر إلى قول الله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه أيضا لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة، وأبقى على نفسه عذاباً خالداً.
ولماذا لم يقل الحق إذن: والذين ظلموا أنفسهم فقط؟ أي يكون العطف ب (الواو) لا ب (أو)؛ لأن الحق يريد أن يوضح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس.
لأن الذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة أو متعة ولو عاجلة، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ولا يعود عليه شيء من النفع؛ فالذي يشهد الزور- على سبيل المثال- إنه لا يحقق لنفسه النفع، ولكن النفع يعود للمشهود له زوراً. إن شاهد الزور يظلم نفسه لأنه لبّى حاجة عاجلة لغيره، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة. أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة فهو قد أخذ متعة في الدنيا، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة.
لكن الظالم لنفسه لا يفيد نفسه، بل يضر نفسه؛ فالذي هو شر أن تبيع دينك بدنياك؛ إنك في هذه الحالة قد تأخذ متعة من الدنيا وأمد الدنيا قليل.
والحق لم ينه عن متاع الدنيا، ولكنه قال عنه: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ}. وهناك من يبيع دينه بدنيا غيره، وهو لا يأخذ شيئاً ويظلم نفسه.
ويقول الحق: {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}. ومعنى (ذنب) هو مخالفة لتوجيه منهج. فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر. وجاء نهي من المنهج فلم يُلتزم به. ولا يسمى ذَنْباً إلا حين يعرفنا الله الذنوب، ذلك هو تقنين السماء. وفي مجال التقنين البشري نقول: لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم.
وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة؛ حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها. أي أنه يتم النص على الجريمة قبل أن يٌنص على العقوبة، فما بالنا بمنهج الله؟ إنه يعرفنا الذنوب أولاً، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب.
ولننتبه إلى قول الحق: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إذن فالاستغفار ليس أن تردف الذنب بقولك: أستغفر الله لا. إن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله: أستغفر الله وأن يصر على ألا يفعل الذنب أبداً.
وليس معنى هذا ألا يقع الذنب منك مرة أخرى؛ إن الذنب قد يقع منك، ولكن ساعة أن تستغفر تصر على عدم العودة، إن الذنب قد يقع، ولكن بشرط ألا يكون بنيّة مٌسبقة، وتقول لنفسك: سأرتكب الذنب، وأستغفر لنفسي بعد ذلك. إنك بهذا تكون كالمستهزئ بربّك، فضلا على أنك قد تصنع الذنب ولا يمهلك الله لتستغفر. قوله الحق: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يوضح لنا أنه لا عقوبة إلا تجريم إلا بنص.
إن الحق يعلمنا يعرفنا أولاً ما هو الذنب؟ وما هو العقاب؟ وكيفية الاستغفار؟ ويقول الحق بعد ذلك: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
{أولئك} إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
مع بيان أوصاف المتقين في قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر. وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع، لأن النعمة حين توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة، والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى الله ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء. إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر، أم كانوا في يسر.
إن كثيراً من الناس ينسيهم اليسر أن الله أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم. وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلام الغير ويشغلوا بآلام أنفسهم. لكن المؤمنين لا ينسون ربهم أبداً. وأمره بالإنفاق في العسر واليسر. ولذلك قولوا: فلان لا يقبض يده في يوم العرس ولا في يوم الحبس.
وتتتابع أوصاف المتقين: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه، وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات الشيطان، فهذه لا تخرجه من حظيرة التقوى، لأن الله جعل ذلك من أوصاف المتقين. فالفاحشة التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد لله بعدها، واستغفارهم مع الإصرار على عدم العودة، لا تخرجهم أبداً عن وصفهم بأنهم متقون. لأن الحق هو الغفور: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}.
إنهم قد أُخبروا بذلك، فلم يجرم الحق أحداً إلا بنص، ولم يعاقب إلا بجريمة. وقول الحق سبحانه: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هو إشارة لكل ما سبق. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين: القوس الأول الذي ابتدأ به هو قوله الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.
والقوس الثاني هو الذي أنهى الأمر: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
فالجنة الأولى التي ذكرها الله إلهاباً للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة، وبعد ذلك ذكر الأوصاف والأصناف وجعل الجنة أجراً. {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}.
والأجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل. والأجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه. فزيادة الأجر ونقصه تقدير من صاحب العمل، وأيضاً تقدير للعامل. فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملاً محدداً فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو يقبل أول عرض من الأجر نظير أداء العمل.
إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل، أو حاجة من عامل، وحين ننظر إلى الصفقة في الآخرة نجد أنها بين إله لا يحتاج إلى عملك. ومع أنه لا يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجراً.
ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجاً إلى عملك، ويعطيك أجراً على عملك ويقول لك: إن هذا الأجر هو الحد الأدنى، لكن لي أنا أن أضاعف هذا الأجر، ولي أن أتفضل عليك بما فوق الأجر. فكم مرحلة إذن؟ إنها ثلاث مراحل، مع أنه سبحانه لا يستفيد من هذا العمل إلا أنه وضع ثلاث مراتب للأجر.
إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد، أنت تحتاج إلى خالقك وهو لا يحتاج إليك، ومع ذلك يعطيك الإله الحق الأجر لا على قدر العمل فقط، ولكن فوق ذلك بكثير. إن الذي تعمل له يوماً من العباد قد يعطيك- على سبيل المثال- ما يكفيك قوت يوم، أو قوت يوم ونصف يوم. ولكنك حين تأخذ الأجر من يد الله فإنه يعطيك أجراً لا تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}.
هذا هو الأجر الذي يقال فيه: نعم هذا الأجر؛ لأنه أجر لا يتناسب مع مجهودي، بل يفوق كل ما بذلت من جهد وقادم من جهة لا تحتاج إلى هذا المجهود.
إنه سبحانه متفضل على أولاً. ومتفضل على أخيراً، ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك- أيها العبد- حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجراً على ما فعلت.
وأوضحنا أن هذه الآيات جاءت بين آيات معركة أُحُد إرشاداً واستثمارا للأحداث التي وقعت في أُحُد، حتى إذا عاش الإنسان في تصور الأحداث فالأحداث تكون ساخنة، ويكون التقاط العبرة منها قريباً إلى النفس؛ لأن واقعاً يُحتّمها ويؤكدها. والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلك: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا...}.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
أي أنتم لستم بدعاً في هذه المسألة. و(خلت) تعني (مضت)، أي حصلت واقعا في أزمان سبقت هذا الكلام. وعادة فالأخبار التي يتكلم بها الإنسان مرة تكون خبراً يحتمل الصدق والكذب، لكن هذه المسألة لا تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لأن الواقع ليس أمراً مستقبلاً، ولكنه أمر قد سبق، فبمجرد أن يجيء الكلام لا ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلام، لأنَّ الواقع قد حدث من قبل، فيقول سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}.
والسنن هي الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان- السيد في هذا الكون- ما يحقق مصلحته، ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان.
وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيراً: أي لا إرادة له، لا إرادة للجماد ولا للنبات. ولا للحيوان في أن يفعل الخير لك أو لا تفعل. فلم يحدث أن جاء إنسان لأرض صالحة للزراعة، ووضع فيها بذوراً، فلم تنبت الأرض وقالت له: لن أعطيك، ولم تقل الأرض يوماً عن إنسان: إنه كافر فلن أعطى له الرزق.
إن الأرض مسخرة لخدمة الإنسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له. والحيوانات أيضا مسخرة لخدمتك لا باختيارك، ولا بقدرة تسخيرك لها، ولكن بتسخير الله لها أن تفعل.
وقلنا: إن الإنسان قد تكون عنده مطية، مثل بعض الفلاحين، فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام السباخ من روث الحيوان وفضلاته، وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة له، ويدللها بالأشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل، ويرفهها في حياتها وينظفها.

هل في الحالة الأولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل الإنسان؟ لا؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت، فليس لها اختيار. ولا نبات له اختيار، ولا جماد له اختيار، ولا الحيوان أيضاً، إنما الاختيار للإنسان.
وقد حكم الله اختيار الإنسان بمقادير يكون الإنسان مسخراً فيها حتى لا يظن أنه استقل بالسيادة فأصبحت له قدرة ذاتية. والحق يحكم الإنسان بأشياء يجعلها قهرية على الإنسان كي يظل في إطار التسخير. ويترك الحق للإنسان أشياء ليبقى له فيها الاختيار. فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا أن ما لا اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ولا تصادم فيه، والذي فيه اختيار للإنسان هو الذي يختل، لماذا؟.
لأن الإنسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو الله سبحانه وتعالى فإذا أردت أن يستقيم لك الأمر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج الله.
وحين تجعل اختيارك في إطار منهج الله تكون قد أصبحت سويًّا كبقيّة الأجناس وتسير الأمور معك بانتظام.
وعندما تقارن بين شيء للإنسان فيه اختيار وعمل، وشيء لا اختيار للإنسان فيه ولا عمل، فأنت تجد أن الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مستقيم الأمر، ولا خلاف فيه أبداً، أما الشيء الذي فيه اختيار للإنسان، فأنت تجد فيه الخلاف.
مثال ذلك: لو نظرنا إلى وسيلة مواصلات من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير، فإننا نجدها تسير في طريق واحد، وتتقابل جيئة وذهابا فلا يحدث تصادم بين حمار وحمار، ولا قتل لراكب أحد الحمارين.
إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضاً حتى لو كان الراكب نائماً. ومهما كان الطريق مزدحماً فالحيوانات لا تتصادم؛ لأن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان.
ولننظر إلى الإنسان حين تدخَّل ليصنع وسيلة مواصلات، صنع الإنسان ألوان السيارات، يقودها الإنسان، ومع أن الإنسان هو الذي يقود السيارات، وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات والحوادث؛ لأن للإنسان يداً في ذلك.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخراً بأمر الله وتوجيهه لا يتأتى منه فساد أبداً، إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار، فحاول أن تختار في إطار منهج الله. فعندما يقول الحق لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فعليك أن تصدق وتطيع؛ لأن الحق سبحانه عندما سخر الأشياء للإنسان سارت بانتظام رائع، وأنت أيها العبد عندما تطيع الله فإن الأمور في حياتك تمشي بيسر.
ولذلك قلنا: إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ولم يشتكوا أزمة هواء، لكن لماذا اشتكوا أزمة طعام؟ إن الإنسان له دخل في إنتاج الطعام. فما للإنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف من الله: (افعل كذا ولا تفعل كذا).
الكون مخلوق بحق. ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها الله، وكما سُخِّر من أجله إذا ما قام الإنسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق. وإن ترك الإنسان التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل، والكون مبني على الحق. {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39] إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة، فلا شيء يعتدي على شيء آخر أبداً. واختيار الإنسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل، ولذلك يصون الله الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل، والباطل يصطدم بالحق لكن الحق يجيء ويبقى، والباطل يزهق ويزول، ويظهر الله لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81].
إذن فقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يعني: اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام الباطل بالحق، أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ لا؛ لأن الباطل كان زهوقا.
ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك لا أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض، ولكن في موكب الباطل مع حق السماء. وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند الله وكل حق جاء من السماء وجاء من مناهج الله قابلة قوم مبطلون.
لماذا؟ لأن السماء دائماً لا تتدخل إلا حين يشيع الفساد، وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة منتفعة بالفساد، وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل، فتنشأ معركة، فقال الحق حينئذ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق، وأن كل معارك أهل الأرض مع منهج السماء قد انتصر فيها الحق. ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك، بداية من قوله سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت: 36-37].
هذه هي الصورة الأولى، وتأتي الصورة الثانية: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38].
إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم. والصورة الثالثة: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39].
وساعة تسمع {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ}. أي كأن هناك حاجة تلاحقهم، والذي يلاحقه شيء فإنه يحاول أن يسبقه، لكنهم لا يستطيعون. وتأتي السنن واضحة بعد ذلك: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن، فمن شاء أن يذهب إليها ليتأكد فليذهب، ولا تزال مدائن صالح، ولا تزال هناك آثار عاد، وكل مكان فيه أثر من الآثار. ولذلك يوضح الحق: فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت، ومن آمن بي فليصدق خبري، ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانه: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [النحل: 36].
إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق- وهو الشيء الثابت- مع الباطل، وهذه القضية موجودة حتى فيما لا اختيار له. ويصنعها الحق فيهم، صراعا بين حق وباطل فيما لا اختيار له لمصلحة الإنسان أيضاً. وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من الإنسان ولكنها تخدم الإنسان، وهذه نراها في الأمور المادية. أما في القيم فالحق يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الأودية، والأودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين جبلين، فإذا نزلت الأمطار على الأعالي فإنها تنحدر إلى الأسفل وتسيل في الأودية. والوديان هي محل الخضب؛ لأن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير تراباً خصباً يخرج منه الزرع. وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته، وباقي المياه يبحث له عن مسلك آخر، ولو إلى باطن الأرض، وذلك كان مظهراً مألوفاً في الجزيرة العربية فعندما يأتي السيل فإن الأودية تمتلئ ماءً، كل وادٍ يأخذ على قدر سعته. {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} ونحن نراه في الحقول ونسميه (الريم) الذي يطفو على سطح الماء، ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانباً. ألم تر القدْر بها لحم تفور؟. إننا نجد الريم قد طفا على السطح. وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر، فإذا ما جاءت حرارة النار أخرجته على السطح، فإما أن يخرجه الإنسان خارج القدر، وإما أن يتركه فيتجمد على الجوانب وينتهي.
ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الأرض والأرض فيها أشياء كثيرة، كجذور النبات وبقايا ما حمله الهواء وتتخلل هذه الأشياء مسام الأرض، هذه الأشياء عندما توجد في المسام، وتأتي الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن الماء يجعل هذه الأشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذاً للجذور الصغيرة.
وينزل الله المطر ليغسل التربة كلها، ويجعل هذه الأشياء تطفو؛ لأنها غثاء، ويطفو الغثاء. وساعة أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو، إنه علو إلى انتهاء، كذلك فورة الباطل.
إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة، أو أنَّ ارتفاع الريم كان علواً على ما في القدر، لا. إنه تطهيرٌ لما في القدر أو الإناء، ولهذا قال الحق: {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً}.
وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى. ولننظر إلى الأشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئ. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ. وإلا كيف تتم صيانة الماء؟ إنه سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية. إذن فالماء عندما ينزل سيلاً، فإنه ينقي التربة من العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة، وقد لا يكتفي بعضنا بهذا المثل، فيضرب لنا الله مثلاً آخر: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].
ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار، فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قوياً إذن فالنار قد صهرت المعدن، وأخرجت منه الخبث الضار فيه، أو الذي يجعله لا يؤدي مهمته بكفاءة عالية، فأنا قد أصنع من الحديد درعاً قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب، وهذه العمليات معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة. وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن نخلصهما من هذه الآثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الأشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما وتشوبهما وهي ليست منهما.
لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي لا تؤدي ضرورة، والمتاع وهو الذي يؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}.
إن الحق كالماء، والحق كالنار، والماء يحمل الزبد الرابي بعيداً عن مسام الأرض، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا، كذلك يضرب الله الحق والباطل: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً}.
وجفاءً أي مطروحاً مرمياً، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض}. ذلك هو صراع الحق والباطل في المبادئ والقيم ويصوره الله في الأمور المادية. ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة، ماء ونار، فإياك حين ترى شيئاً يناقض شيئاً أن تقول: هذا يناقض ذاك، لا. لأن هذا الشيء مطلوب لمهمة، وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى.
إذن فقول الحق سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل، وأن الإنسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو، ونقول: هذا إلى جُفاء. وهذه سنة من سنن الحياة. وإن أردتم أن تتأكدوا منهما، فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}.
وهنا ملحظ عام، وملحظ خاص، الملحظ العام: أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الأرض، وتلك هي حدود رؤيتنا، لكن حين يتكلم الله فرؤية الله أشمل فهو الخالق لهذا الكون، ونحن ما زلنا نجهل جزيئات في هذا الكون، ولم نعرف بعضها إلا أخيراً، وخالق الكون هو الذي يعلم كل الخبايا.
نحن نقول: إننا نسير على الأرض؛ لأننا كنا نفهم أن هذه الأرض ليس عليها إلاّ نحن فقط، ثم تبين لنا- بعد أن أخذ العلم حظه- أنه لو لا وجود الهواء في الأرض لما صلحت للحياة. ولذلك فعندما تدور الأرض. فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلاف الجوي إذن فالغلاف الجوي جزء من الأرض وله امتداد كبير، فالإنسان عندما يسير فإنه يسير في الأرض، أما الذي يسير على الأرض فهو الذي يسير فوق الغلاف الجوي، أما السائر على اليابسة، والغلاف الجوي ما زال فوقه فهو يسير في الأرض لا على الأرض.
وما دامت المسألة هي سنن تقدمت، ويريد الله منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة، لذلك يقول لنا: {فَسِيرُواْ فِي الأرض} نسير بماذا؟. إما أن نسير بالانتقال، أو نسير بالأفكار؛ لأن الإنسان قد لا يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة، والرحالة- مثلاً- هم الذين ذهبوا إلى جنوب الجزيرة، ورأوا وادي الأحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها.
إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الأشياء، فعاصفة واحدة تطمر قافلة. فكم من العواصف قد هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6-13].
إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد أي متفوقة على حضارة مصر القديمة. وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الآن؟.
وما دامت الرمال بعاصفة واحدة- كما قلنا- تطمر قافلة، فكم عاصفة مرت على هذه البلاد؟. ولذلك نجد أننا لا نزال جميعاً إلى الآن حين نريد أن ننقب عن الآثار فلابد أن نحفر تحت الأرض. لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الآثار فوق الأرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية.
والمثال على ذلك: أنَّك تغيب عن بيتك شهراً واحداً وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض البيت على الرغم من إغلاق النوافذ. فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاماً، أو عامين، أو ثلاثة أعوام، رغم إحكام وإغلاق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلافه؟ ولكن التراب الناعم يتسرب ويغطي الأثاث والأرض. وإذا كانت هذه الأمور تحدث في منازلنا فما بالك بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو لا؟
إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الآثار فنحن نحفر في الأرض، وهذا لون من السير في الأرض للرؤية والعظة. وحين يقول الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} [الفجر: 6-12].
إن الذي أقام هذه الحضارات ألا يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟.
لا بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها، فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها من الفناء. إنها القوة الأعلى منها، وهكذا نصدق قوله الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}. إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق، فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها. إذن فقوله سبحانه يحمل كل الصدق: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}
وبعد ذلك يقول الحق: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
انظر إلى الكلمة {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة (بيان رقم واحد) تهتز له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من الله؟
إنه إيضاح من الله: أنا لن آخذكم على غرة {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} و(الهدى): كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة. و(الموعظة) معناها: حمل النفس ترغيباً وترهيباً، لعمل الخير بالترغيب، والبعد عن الشر بالترهيب، تلك هي الموعظة.
وكل هذه الأشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال ساخناً. لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة، ووضع لنا الأشياء المادية والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا، وحتى لا تنتهي قصة أُحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت فيها.
وما دامت المسألة هكذا، وكان المقاتلون في سبيل الله هم جنود الحق، وعرفوا ذلك بتأييد الله لهم ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بينهم. وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي حدث في معركة أٌحُد لا يصح أن يضعفكم؛ لأنكم تعرفون كيف يسند الله الحق ويقويه. وتعرفون حملة الله على الباطل. وقد أوضحنا لكم السنن والبيان، ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}
والمقصود بقوله: {وَلاَ تَهِنُوا} أي لا تضعفوا، وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لأن الجراحات أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد، ولدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر أن يصعد الجبل، وحمله طلحة بن عبيد الله على ظهره ليقوم، لذلك قال الحق: {وَلاَ تَهِنُوا}، لأنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن الله لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لأنك نصير للحق، والحق من الله وهو الحق لا يسلم نبيه وقومه لأعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن تضعف. والضعف هو نقصان قوة البدن.
{وَلاَ تَحْزَنُوا} والحزن مواجيد قلبية، وهم قد حزنوا فقد مات منهم كثير. مات منهم خمسة وسبعون شهيداً، خمسة من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وهذه عملية صعبة وشاقة، وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء، وغضب لمقتل حمزة- رضي الله عنه- وقال: (لن أُصاب بمثلك أبداً! وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ من هذا) ثم قال: (لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم مكانك).
فقال الحق: {وَلاَ تَحْزَنُوا}؛ لماذا؟ لأنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث.
صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس، ولكن انظر إلى أين ذهب. وانظر ماذا خلف من بعده. أما هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة عندكم. إن الحياة عندنا لها مقاييس، والحياة عند ربنا لها مقاييس، فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ لا، حاشا لله.
إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك، فلا تحزن عليه بل تفرح له؛ لأنه ما دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة. إذن فقد قصر له مسافة الحياة، وما دامت الغاية أن يصل إلى رحمة الله وإلى حياة عند الله بكافة معانيها، فهو سعيد بجوار ربه، ونحن في الغايات الدنيوية عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُسرّ ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان.
فبدلاً من أن أذهب إلى الإسكندرية ماشياً أذهب راكباً حصاناً أو أذهب راكباً سيارة، والمترفه يذهب راكباً طائرة، فإذا كانت الغاية مرجوَّة ومحببّة إلى النفس، وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب لك المسافة من الغاية، فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد. إياك أن تقول: إنّ الله حرمني قوته في نصرة الحق، لا. هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق، إنك عندما تعرف أن إنساناً باع نفسه لله، لابد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، يقدم أهله؛ لأنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب، إذن فهو يحب أهله، لكنه يحبهم الحب الكبير، والناس تحب أهلها هنا أيضاً لكن الحب الدنيوي.
{وَلاَ تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من الغنائم أو لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر لماذا؟ وتأتي الإجابة، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}.. ولذلك جاء مصداق ذلك حينما نادى أبو سفيان فقال: (اعل هبل) أي أن إلههم صار عالياً، فقال الرسول لأصحابه: ألا تردون عليهم؟، قالوا: بماذا نرد قال: قولوا لهم: الله أعلى وأجلّ فقال أبو سفيان: (لنا العزى ولا عزى لكم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا لا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان: إن موعدكم (بدر) العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل نعم هو بيننا وبينك موعد».
ف {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فما دمتم على الإيمان فأنتم الأعلون، وإذا أردتم أن تعرفوا معنى (الأعوان) حقاً، فقارنوا معركة (أُحُد) بمعركة (بدر)، هم قتلوا منكم في أُحُد، وأنتم قتلتم منهم في بدر. ولكنكم أسرتم منهم في بدر، ولم يأسروا منكم أحداً في (أُحُد). وأنتم غنمتم في بدر، ولم يغنموا شيئاً في أُحُد.
وأنتم الأعلون لأن الله حمى مدينتكم مع أنه لا محامية فيها ممن يكون فيه معنى الجندية. كل ذلك وأنتم الأعلون، هذا إذا نظرنا إلى معركة بمعركة. وإن نظرنا إلى المعركة نفسها (أُحُد) وندع بدراً وحدها، في ظل قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} لقد ثبتت تلك القضية لأنكم حينما كنتم مؤمنين- ومن شرط الإيمان اتباع أمر الذي لا ينطق عن الهوى- انتصرتم. وانتصرتم انتصاراً رائعا؛ لأنكم قتلتم في أول جولة للحرب بضعاً وعشرين من صناديدهم وفيهم صاحب الراية. ولكنكم حينما خالفتم أمرالنبي صلى الله عليه وسلم، تلخلخ الإيمان في قلوبكم.
إذن فالعملية التي حدثت تؤكد صدق {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. فأنتم علوتم في أول الأمر، وعندما خالفتم الأمر صار لكم ما صار؛ فقد صدقت القضية في قول الله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
وأيضا فإنكم لو نظرتم إلى المعركة نفسها لوجدتم أن عدوّكم لم يبق في أرض المعركة، بل أنتم الذين بقيتم في موضع المعركة. وأين ذهب هو؟ أذهب إلى موقع آخر ينال فيه غلبة ونصرا؟ لم يكن هناك إلا المدينة، والمدينة ليس فيها أحد، ولم يذهب عدوكم إلى هناك، وإنما ذهب ناحية مكة، إذن فهو الذي هرب.
وبعد ذلك ماذا حدث؟ ألم يؤذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ويطلب العدوّ مرهباً له ليظنوا به القوة، وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم؟
ولقد خرج رسول الله، مع من؟ أجاء بحامية لم تشهد المعركة؟ لا.
بل قال عليه الصلاة والسلام مناديا المسلمين: (إليّ عباد الله)، فالذين شهدوا المعركة سبعمائة، جرح منهم الكثير وقتل منهم خمسة وسبعون، فمنهم حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، وسعد مولى عتبة، هؤلاء خمسة من المهاجرين، والباقي من الأنصار هؤلاء مطروحون من العدد الذي شاهد أول الموقعة، حتى أن رسول الله لم يأخذ بدلاً منهم من المدينة من القوم الذين عرضوا أنفسهم ليكونوا مع الجيش الذي يطارد قريشاً، بل آثر الرسول أن يذهب بمن ذهب معه إلى المعركة أنفسهم، ولم يكن منهم بطبيعة الحال الشهداء أو الجرحى.
لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد المعركة إلا واحداً. وهو سيدنا جابر بن عبد الله. الذي لم يخرج في معركة أُحُد واعتذر إلى رسول الله بأن أباه عبد الله بن عمرو بن حرام قد خلّفه على بنات له سبع وقال له: يا بنيّ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رَجَل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلّفْ على أخواتك فتخلف عليهن فقبل رسول الله عذره وأذن له فخرج معه وطاردهم رسول الله ومن معه إلى حمراء الأسد، أما والده عبد الله بن عمرو فقد استشهد في أحُد ومع ذلك فقد طلب من رسول الله على الرغم من استشهاد أبيه أن يخرج إلى حمراء الأسد. وذلك لنعلم أن الله يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
هذا وإن واحداً من المشركين الذين كانوا موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حلفائه وهو معبد الخزاعي، مَرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد وقال له: يا محمد: أما والله لقد عز علينا ما أصابك، ثم لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، ولم يزل بهم حتى ثنى أبا سفيان ومن معه فولوا وجوههم إلى مكة خائفين مسرعين، وقد ذهب رسول الله إلى حمراء الأسد فلم يجد أحداً فعسكر رسول الله ثلاثة أيام هناك، ومعنى ذلك أنهم هم الذين فروا من المعركة. إذن فأنتم الأعلون، ولكن لا حظوا الشرط {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. ثم بعد ذلك يُسَلّى الله المؤمنين فيقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس...

{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
وقد تكلمنا- من قبل- عن (المس) وهو: إصابة بدون حس.. أي لمس لكنك لا تحس بحرارة أو نعومة مثلا، إنما (اللمس) هو أن تحس في الشيء حرارة أو نعومة ويحتاج إلى الالتصاق المؤقت، إنما (المس) هو ما لا تكاد تدرك به شيئاً، (والقَرْح) هو: الجراح، وفي لغة أخرى تقول (القُرح)- بضم القاف- وأقول: القٌرح وهو الألم الناشئ من الجراح، كي يكون لفظ معنى.
وأنت قد ترى بعض الألفاظ فتظن أن معناها واحد في الجملة، إلا أن لكل معنى منها ملحظاً، أنت تسمع مثلاً: رأى، ونظر، ولمح، ورمق، ورنا. كل هذه تدل على البصر. لكن لكل لفظ له معنى: رمق: رأى بمؤخر عينيه، ولمح: أي شاهد من بعد، ورنا: نظر بإطالة، وهكذا. ويقال أيضاً: جلس، وقعد، فالمعنى العام يكاد يكون واحداً، لكن المعنى الدقيق يوضح أن الجلوس يكون عن اضطجاع. والقعود عن قيام، كان قائماً فقعد، والاثنان ينتهيان إلى وضع واحد، فكذلك (قَرح) و(قُرح) كل لفظ له معنى دقيق.
ويقولون- مثلاً-: إن للأسد أسماء كثيرة، فقال: (الأسد) و(الغضنفر) و(الرئبال) و(الوَرْد) و(القسْورة). وصحيح هذه أسماء للأسد، ولكن لكل اسم معنى محدد، ف (الأسد) هو اللفظ العام والعَلَم على هذا الحيوان، و(الغضنفر) هو الأسد عندما ينفش لبدته، و(الوَرْد) هو حالة الأسد عندما يكون قد مط صلبه، فكل موقف للأسد له معنى خاص به.
وقوله الحق: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} لا حظ أن المتكلم هو الله فافطن جيداً إلى مرارات كلامه. ونعرف أنه في الشرط والجواب، أن الشرط يأتي أولا ثم يأتي الجواب من بعد ذلك مترتبا عليه ونتيجه له، كقولنا (إن تذاكر تنجح) إن النجاح هو جواب لشرط وهو الاستذكار.
وقوله الحق: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فهل المعنى المراد من هذه الجملة الشرطية أن مس القرح للكافرين الذي حدث في بدر كان كجزاء لمس القرح للمؤمنين في أحد؟ لا، إنه لا يكون أبداً جواباً لشرط؛ لأنه لو كان جواب شرط لقال الحق: إن يمسسكم قرح فسيمس القوم قرح مثله. ولكنه لم يقل ذلك لأن القرح الذي أصاب المشركين في بدر كان أسبق من القرح الذي أصاب المؤمنين في أحد.
وكأن الحق يقول: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا؛ فقد مس القوم قرح مثله، وليس ذلك جواب الشرط، ولكنه جاء ليُستدل به على جواب الشرط، أي أنه تعليل لجواب الشرط، أقول ذلك حتى لا يتدخل دعيّ من الأدعياء ويتهم القرآن- والعياذ بالله- بما ليس فيه.
إنه سبحانه يثبت المؤمنين ويسلّيهم. ومثال ذلك ما نقوله نحن لواحد إذا أصابته كارثة: إن كان قد حدث لك كذا، فقد حدث لخصمك مثله. إذن فنحن نسليه. والمقصود هنا أن الحق يسلّي المؤمنين: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا، فليكن عندكم سُلّوٌ ولْتجتازوا هذا الأمر ولترض به نفوسكم؛ لأن القوم قد مسهم قرح مثله.
والأسوة والتسلية، هل تأتي بما وقع بالفعل أم بما سيقع؟. إنها تأتي بما وقع بالفعل، إذن فهي تعلل تعليلاً صحيحاً: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.
وأطلق الحق سبحانه من بعد ذلك قضية عامة: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس}. ما معنى المداولة؟ داول أي نقل الشيء من واحد لآخر. ونحن هنا أمام موقعتين؛ غزوة بدر وغزوة أُحٌد. وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر بالإجماع، أما غزوة أُحٌد فلم يكن فيها هزيمة بالإجماع ولم يكن فيها نصر.
إذن فقوله الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي مع التسليم جدلاً بأن الكفار قد انتصروا- رغم أن هذا لم يحدث- فإننا نقلنا النصر منكم أيها المؤمنون إليهم.
وإياك أن تفوتك هذه الملاحظة، بأن النصر لم ينتقل إليهم إلا بمخالفة منكم أيها المؤمنون. ومعنى مخالفة منكم، أي أنكم طرحتم المنهج، أي أنكم أصبحتم مجرد (ناس) مثلهم.
وما دمتم قد صرتم مجرد ناس بدون منهج مثلهم ومتساوين معهم، فإن النصر لكم يوم، ولهم يوم. ولنلحظ ان الحق لم يقل: إن المداولة بين الناس هي مداولة بين مؤمنين وكافرين.
فإن ظللتم مؤمنين فلا يمكن أن ينتقل النصر إلى الكفار، إنما النصر يكون لكم، انظر ماذا قال: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} ولم يقل بين المؤمنين والكافرين، أي بينكم وبين قريش.
وليس المقصود بالأيام ما هو معروف لدى الناس من أوقات تضم الليل والنهار، ولكن المقصود ب (الأيام) هنا هو أوقات النصر أو أوقات الغلبة. ويقال أيضاً: (يوم فلان على فلان) إذن {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} لم تتضمن المداولة بين المؤمنين والكافرين، ولكنها مداولة بين الذين مالت أبصارهم إلى الغنائم فتخلخل إيمانهم، ففازت قريش ظاهرياً. فلو ظللتم على إيمانكم لما حدث ذلك أبداً. لكنكم تخليتم عن منهج ربكم، وبذلك استويتم وتساويتم مع غير المؤمنين، وبذلك تكون الأيام لذلك مرة ولهذا مرة أخرى، إنها مطلق عدالة.
علينا أن نتذكر الشرط السابق، لا لعدم الهزيمة. بل للعلو والنصر: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
إن الحق سبحانه في مسألة مداولة الأيام ينبه المؤمنين الذين تخلخل إيمانهم: ما دمتم اشتركتم معهم في كونكم مجرد (أناس) فيصبح النصر يوماً لهم ويوماً لكم، والذكي العبقريّ الفطن الذي يحسن التصرف هو من يغلب؛ لأن المعركة هنا تدور بين قوة بشر مقابل قوة البشر.
ما دام المسلمون قد تخلوا عن منهج الله فقد صاروا مجرد بشر في مواجهة بشر. ولذلك قلنا: إنه عندما تخلى الرماة عن إنفاذ أمر القائد الأعلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهرت عبقرية خالد بن الوليد على عبقرية المقاتلين المسلمين.
ويجب أن نلحظ في قوله الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أننا لا يمكن أن نقول: إن مداولة الأيام تكون بين المؤمنين والكافرين، إنما هي بين الناس؛ لأن الناس هم مجموعة الإنسان، فإن تجردوا عن منهج السماء فهم سواسية، وصاحب الحيلة يغلب، أو صاحب القوة يغلب، أو صاحب العدد أو العُدّة يغلب.
ولكن ما الذي يعوض كل تلك الإمكانات ويحقق النصر؟ إنك إن تأخذ الله في جانبك فلن يجرؤ مخلوق أن يكون في مواجهة الحق في معركة. لقد قلنا قديماً وعلينا أن نعيها جيداً: إن الولد الصغير حينما يضطهده زملاؤه فيلجأ إلى حِضن أبيه، عندئذ ينصرف كل منهم إلى حاله، لكن أقرانه يستطيعون أن يهزموه عندما يبتعد عن أبيه. فما بالنا ونحن عيال الله؟ وكذلك شأن الكفار مع المؤمنين.
إن الكفار قادرون على الانفراد بالمؤمنين حينما يتخلى المؤمنون عن منهج الله؛ لأن الله لن ينصر أناساً ليسوا على منهجه، فلو نصر الله أناساً على غير منهجه فإن ذلك يبطل قضية الإيمان. وعندما نستقرئ القرآن الكريم؛ نجد أن كل خبر عن الإنسان وهو معزول عن المنهج الإلهي هو خبر كله شر.
فسبحانه يقول: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1-2].
إن الإنسان على اطلاقه لفي خسر، ولكن من الذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الإجابة من الحق فيقول: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
وتتأكد القضية في موضع آخر من القرآن الكريم فيقول سبحانه: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين} [المعارج: 19-22].
إذن كل كلام- في القرآن- عن الإنسان على إطلاقه يأتي من ناحية الشر. وما الذي ينجيه من ذلك؟ إنه المنهج الإلهي.
إذن فقول الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} تحمل تأنيبا ولذعة خفيفة لمن أعلنوا الإيمان ولكنهم تخلفوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُد.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين}.
ففي وقت النصر نجد حتى الذي لم يشترك في المعركة يريد أن يُدخل نفسه ضِمن المنتصرين.
لكن وقت الهزيمة فالحق يَظهر، والذي يظل في جانب الهزيمة معترفا بأنه شارك في نزولها بالمسلمين وان لم يكن شارك فقد عذر أو لام من كان سببا فيها، وهو مع ذلك يسهم في حمل أوزارها وآثارها الضارة، ويتحمل ويشارك في المسئولية، إنه بذلك يكون صادقا.
وقد يقول قائل: هل الله لا يعلم الذين آمنوا؟ لا، إنه سبحانه وتعالى يعلم الذين آمنوا سواء حدثت معركة أو لم تحدث. لكن علم الله الأزلي الغيبيّ لا نرى نحن به الحُجَّة، ولذلك لا تكون الحجَّة ظاهرة بيننا، ولكن حين يبرزُ علم الله إلى الوجود أمامنا فإنه علم تقوم به الحُجة واضحة على من آمن، وعلى من لم يحسن الإيمان، وذلك حتى لا يدِّعي أحد لنفسه أنه كان سيفعل، لكن الفرصة لم تواته.
وهكذا تأتي المواقف الاختبارية والابتلاءات ليعلم كل منا نفسه وتبرز الحُجة علينا جميعا. إذن: فهناك فرق بين علم الله الأزليّ للأشياء كما سوف تحدث، ولكن لا تقوم به الحُجّة علينا. فقد يدعى البعض أنه لو قامت معركة شديدة فإنهم سوف يصمدون، ولكن عندما تقوم المعركة بالفعل فنحن نرى مَنْ الصّامد ومَنْ هو غير ذلك من المتخاذلين الفارين؟ ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى: نحن في حياتنا العادية نجد أن عميد إحدى الكليات يأتي إلى المدرس ويقول له: نحن نريد أن نعقد امتحانا لنتعرف على المتفوقين من الطلاب، ونمنح كُلا منهم جائزة.
فيرد المدرس: لماذا الامتحان؟ إنني أستطيع أن أقول لك: من هم المتفوقون، وأن أرتبهم لك من الأول ومن الثاني وهكذا.
لكن عميد الكلية يصر على أن يعقد امتحانا حتى لا يكون لأحد حجة، ويختار العميد مدرساً آخر ليضع هذا الامتحان. وتظهر النتيجة ويكون توقع المدرس الأول هو الصائب، وهكذا يكون تفُوق هؤلاء الطلاب تفوقا بحُجة. وإذا كان ذلك يحدث في المستوى البشري فما بالنا بعلم الله الأزلي المطلق؟
إن الحق بعلمه الأزلي يعلم كل شيء ومُحيط بكل شيء، وهو سبحانه لا يقول لنا: أنا كنت أعلم أنكم لو دخلتم معركة ستفعلون كذا وكذا.
وكان يمكن أن يجادلوا ويدعوا لأنفسهم أشياء ليست فيهم، لكن الحق يضع المعركة وتكون النتيجة مطابقة لما يعلمه الله أزلا. إذن فالتغيير هنا لا يكون في علم الله، لكن التغيير يكون في المعلوم لله، ليس في العالِم بل في المعلوم بحيث نراه حُجة علينا.
ويقول الحق: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} وساعة تسمع كلمة (يتخذ) هذه؛ اعرف أنها اصطفاء واختيار. وسبحانه يقول: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125].
أي أنه جل وعلى قد آثر إبراهيم واصطفاه، إذن فالاتخاذ دائما هو أن يَأخذه إلى جانبه لمزية له ورفعة لمكانته.
وحين يقول الحق: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} فنحن نعرف أن (شهداء) هي جمع شهيد، وكلمة شهيد لها معانٍ متعددة، فالشهيد في القتال هو الذي يُقتل في المعركة، وهذا سيكون حيا ويرزق عند ربه.
وإياك أن تقول: إننا عندما نفتح قبر الشهيد سنجده عظاما وترابا. وهذا يعني أنه سلب الحياة.. لا، إن الله وضح أن الشهيد حيّ عنده، وليس حيا عند البشر. وإذا فتح أحد من الناس القبر على الشهيد فسيراه عظاما وترابا؛ فقد جعل الله سبحانه للشهيد حياة عنده لا عندنا. {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
إذن فللشهداء عند ربهم حياة لا نعرف كنهها، ويوم نفتح عليهم قبورهم تصير أمرا مُحسا، ولكن الله نبهنا أن الشهداء أحياء عند ربهم. وعندما نتأمل كلمة (شهداء) نجد أنها تعني أيضا الشهادة على الحق الذي قامت من أجله المعركة، وكل إنسان يُحب الخير لنفسه، فلو لم يعلم هؤلاء أن إقدامهم على ما يؤدي إلى قتلهم خير لهم من بقائهم على حياتهم لما فعلوا.
وبذلك يكون الواحد منهم شاهدا للدعوة وشهيدا عليها. وقد ينصرف المعنى في (شهداء) إلى أنهم بَلَّغوا الدعوة حتى انتهت دماؤهم ويذيل الحق الآية بقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين}.
ومعنى هذا التذييل أن المعركة يجب أن تدور في إطار الحق، ومثلما قلنا: ما دام الناس متخلفين عن المنهج فإن الله لا يظلمهم بل ستدور المعركة صراع بشر لبشر، والقادر من الطرفين هو الذي يغلب. فالحق سبحانه بالرغم من كراهيته للكفر إلا انه لا يُحابي المسلم الذي لا يتمسك بمطلوب الإيمان؛ لذلك قد يغلب الكافر المسلم الذي لا يمسك بمطلوب الإيمان، ولكن إن تمسك المؤمنون بمطلوب الإيمان فالنصر مضمون لهم بأمر الله. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ...}.
المصدر :- موقع نداء الايمان

تعليقات

التنقل السريع